عواطف الزين حول”عزيزي النابض حبّاً”: السوبر أمومة في رواية الواقع

حوار غادة علي كلش:

تشكلّ تجربة الاديبة والقاصة والإعلامية اللبنانية عواطف الزين، مخزونا متميزا في العطاء الأدبي والنقدي والجمالي للكلمة والفكر والمعنى. لها مؤلفات عدة عن أدب الإحتلال، والنقد الأدبي، والحوارات السياسية والثقافية. ولها مجموعة قصصية عنوانها” لو ينطق البحر”.أما نتاجها الذي يلامس نبض القلوب والعقول فهو كتابها” عزيزي النابض حبا” الذي أرادته عواطف شهادة عمر ونضال وأمومة صادقة وهادفة، سردت فيه تجربتها العميقة الطويلة مع حالة ابنها عبد العزيز، المصاب بمتلازمة “داون” . هنا حوار معها يطرح أسئلة الهاجس ، ويحصد أجوبة البرهان:

*كتابك “” يقدم للقارىء العربي، على اختلاف شرائحه الإجتماعية، وخصوصا الشرائح الأهلية والتربوية، خلاصة تسجيلية وجدانية علمية، وتنويرية عن حياة المصابين بمتلازمة داون، بأسلوب سردي شفيف وفاعل. هل تعتقدين أنّ استخدامك الأسلوب الأدبي، كونك أديبة، أسهم في نفاذ الكتاب الى قلب القارىء،وحقق المبتغى الرئيسي المنشود منه؟

-اعتقد ان “لغة الامومة”، هي التي اوصلت الكتاب الى قلوب القراء، في كل مكان وصل اليه. فهذه اللغة المعتمدة على الصدق في التعبير،  اوجدت ممرات آمنة الى قلوب الناس، من مختلف الشرائح الاجتماعية. لأن الكتاب كما -اشرت في سؤالك- هو خلاصة تسجيلية وجدانية علمية وتنويرية،عن حياة  هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة، واعني بها فئة متلازمة الداون “. بالطبع هناك خصوصية، تتعلق بكوني اديبة اقدم كتابا عن تجربتي مع ابني “عبد العزيز الهاشم” . وهي  انني امتلك حرفة الكتابة، التي تسهل المهمة، وتسهم في بلورة الوقائع والأحداث على صعيد الصياغة والاقناع وتوصيل الفكرة المراد توصيلها الى الناس صغارا، وكبارا، اما  اللمسة الانسانية الشفافة التي تلقي بظلالها على سياق الوقائع، فهي  نابعة من القلب، وترتبط بكوني أمّاً أوّلا، وكاتبة ثانيا، لها اسلوبها الخاص  في الكتابة .

  * حضرني مفهوم ” اللامنتمي” وأنا أقرأ في كتابك هذا تجربتك مع ابنك عبد العزيز المصاب بمتلازمة داون. فمصطلح اللامنتمي ههنا حضر كخط متقاطع مع غربة عبد العزيز عن مجتمعه من جهة، ومع غربة الكاتب الذي لا ينتمي بدوره إلى عاديات الناس بشكل أو بآخر، من جهة ثانية. ما هو السر الذي جعلك تخوضين غمار هاتين الغربتين بنجاح؟

-انا اضيف الى هاتين الغربتين، غربة ثالثة وهي اقامتي بعيدا عن وطني لسنوات طويلة. وهذا الاحساس بالغربة يلازمني، وقد ظهر جليا في سياق السيرة، وعبرت عنه بصدق، لأنني شعرت بقسوة هذه الغربة اكثر عندما علمت بمرض ابني . قد يكون تعبيرك في محله ،بالنسبة لعزيز. هو كذلك اي انه غير منتم الى مجتمعه وعالمه بسبب المرض .لكن محاولتي في تربيته انطلقت من امكانية دمجه في هذا المجتمع، والتعرف إليه.  حتى لا يصبح عالة عليه. وفي الوقت نفسه حاولت من خلال هذا الكتاب،  إيجاد بيئة صحية لهذه الفئة من الاطفال، تكون حاضنة ومدافعة عن حقوقها التي حرمت منها بسبب المرض وتخلي المجتمع عنها . اي ان المجتمع ليس مهيأ تماما للتعامل مع هذه الفئات، لأسباب عديدة يطول شرحها. وهذا ينعكس بشكل سلبي على تلك الفئات، ويعرقل خطط دمجهم في مجتمعاتهم وتؤخر نموهم النفسي والعقلي وتزيد الاوضاع  سوءا . اما الكاتبة التي تسكنني، فهي تنتمي الى الكلمة التي تعتبرها وطنا يعوضها غيابها عن الوطن وغياب الوطن عنها . لا اريد ان اطيل اكثر في الرد على هذا السؤال لانه يحتمل الاسهاب والاستطراد. لكن اختصر لأقول ان المرض اي مرض في حد ذاته هو غربة عن الواقع وعن المفترض، ولا ينتمي الا لأمنية شفاء .اما السر الذي جعلني اخوض هاتين التجربتين بنجاح فيكمن في الامومة ذاتها.

*يختزل عنوان كتابك سيرة ذاتية نابضة بالصدق والقلق والهمّة،  سيرة مطبوعة بمرآة بالغة الشفافية. هل لأنك عواطف الزين استطعت بلوغ شاطىء الامان مع عبد العزيز، أو لأنه عبد العزيز استطاعت عواطف الزين أن تبلغ هذا الشاطىء؟

-هل لأنني عواطف الزين؟ ربما  اكون قد بلغت شاطىء الأمان. بمعنى انني تخطيت المراحل الصعبة في تربية ابني، الذي يحتاج الى “سوبر ام ” تتابع كل صغيرة وكبيرة في حياته، داخل البيت او المدرسة او الشارع مع كل ما يرتبط بهذه المتابعة من تفاصيل قد لا تخطر على البال . لكن التجربة “صقلت” امومتي، وفتحت امامي افاقا شاسعة تعلمت خلالها ابجديات كثيرة عن الامومة ودخلت عوالم جديدة، لم اكن اتوقع دخولها في يوم من الايام . فإبني  “عبد العزيز”  علمني القدرة على الصبر والاحتمال والهدوء. وتكشفت لي في شخصيته جوانب من الحنان والسلام والطمأنينة .قد اكون نجحت في جعله آمنا بمعنى الامان النفسي والصحي والاجتماعي، لانني حرصت على توفير كل ما استطعت من مقومات لجعله كذلك. اي انني لم اهمله او اخجل من الاعلان عن وجوده في حياتي، كما يفعل الكثيرون. وانما تعاملت معه كما أتعامل مع ابنائي الآخرين.، ببساطة استطعت ان اجعل منه  ابنا سويا رغم انخفاض نسبة الذكاء لديه.فهذه الفئة من الاطفال يعطونك بقدر ما تعطيهم من الاهتمام والرعاية والحب .لذا استطيع القول انني وفرت له البيئة الحاضنة،  بمشاركة ابنائي الاخرين الذين احبوه كثيرا، وكانوا يعلمونه نطق الكلمات وسماع الموسيقى وحفظ الاغاني والعديد من الالعاب، الى جانب مساعدتي في تدريسه، ومشاركته في الكثير من الانشطة الرياضية. لذلك كان متفوقا في دراسته، وفي الرياضة  وحصل على الكثير من الجوائز .

*دعوت في كتابك الى إعداد دليل موثق ومعتمد بالبراهين ودقائق التجربة، يضيء على كيفية الاخذ بيد طفل ” الداون” في جميع المراحل ،من الصغر الى اليفاعة ،الى الشباب والنضوج. منْ باعتقادك قادر على انجازهذا الدليل المهم، على مستوى الأفراد والمؤسسات؟

-المؤسسات الحكومية التابعة للدولة، يمكنها اعداد هذا الدليل من خلال تأليف لجان متخصصة مكونة من امهات لهن تجارب في هذا المجال، ومدرسات او مدرسين مختصين في تدريس هؤلاء، واطباء ولادة واطباء نفسيين واعلاميين، وكل من يمكن ان يساهم في رسم ملامح انسانية لذوي الاحتياجات الخاصة على كل صعيد.لأن مثل هذا الدليل يوفر الكثير من الجهد والوقت على الاهل والمدرسة والدولة لانها ستوفر دليلا يساعدها ويساندها في رعاية هذه الفئات من خلال استراتيجية واضحة ومدروسة . على كل مجتمع ان يبادر الى عمل مثل هذا الدليل لانه سيكون بمثابة دليل حضاري على سلوكنا، واسلوب تعاملنا مع غيرنا، ممن لا يتمتعون بقدرات الانسان “السوي” .علما بأن هؤلاء في نظري هم اسوياء بإحساسهم وحنانهم  وسلامهم الداخلي . فالاحساس لا يمكن ان يكون معاقا .

*لك مجموعات قصصية متميزة. من المعروف أن فن القصة في أيامنا هذه، تراجعت جماهيريته، لصالح فن الرواية.الى أي مدى يؤثر هذا التراجع على تطلعات القاص العربي ومنظوره للمستقبل؟

-من الخطأ ان يتراجع اي فن ابداعي لحساب فن آخر ..وانا ارى ان الابداع بكل فنونه، من قصة ورواية وشعر وتشكيل وموسيقى، وغير ذلك، يفترض انه يكمل بعضه بعضا ..قد يصبح سوق الرواية رائجا في فترة ما ،لكن ذلك لا يعني التخلي عن القصة القصيرة او غيرها لصالح الرواية وهذا ينطبق على الفنون الابداعية الاخرى . ما يحدث عندنا يشبه الموضه في عالم الازياء . والابداع ليس موضة .لا نستطيع القول اليوم ان اللون الاحمر هو سيد الالوان ..وغدا لون اخر ..اعتقد ان حركة النشر او دور النشر ذات الطابع التجاري هي المسؤولة عن هذه الحالة . لأن الكتابة هنا ليست بالامر ..قد يعبر الكاتب عبر القصة القصيرة عن مضمون لا يصلح للرواية والعكس صحيح.وليس كل ما يصدر من روايات يستحق القراءة، كذلك الشعر هناك من يكتب “الشعر” ويريد ان يصبح شاعرا من اول خاطرة وهنا المعضلة . الحل هو في ترك النبض الابداعي على طبيعته من دون “تجيير ” لتكون كل الفنون الابداعية حاضرة والمهم ان تكون مميزة وقيمة

وذات جودة وتستحق ان تقرأ ومكتملة الشروط الفنية وهذا ينطبق على كل ابداع .

.