وليد الحسيني يرد على حسن صبرا: تدني أخلاقي ومهني وراء اتهامات مختلقة

السيد حسن صبرا

مجلة الشراع

قمتم في عددكم الصادر بتاريخ 7 أيلول العام 2015 بنشر صورتي على الغلاف مع عنوان: “الصحفي وليد الحسيني نقل المتفجرات التي أسقطت طائرة لوكربي”.

لم ترد في العنوان حتى علامة إستفهام، مما يدل على تبنيكم لهذه التهمة المختلقة.

وترفعاً عن التدني الأخلاقي والمهني، أكتفي بشجب هذا الخبر المختلق، مع تأكيدي أنك تعرف جيداً تداعيات هذا الافتراء الذي يبدو واضحاً أن وراءه دوافع مشبوهة

غلاف الشراع

غلاف الشراع

سوداء.

لذا أطلب منكم نشر نص هذا الرد على الغلاف حيث وقع الضرر الأشد، وذلك عملاً بقانون المطبوعات، مع احتفاظي بكامل الحقوق.

وليد الحسيني

الحل في لبنان يمرّ من عدن

لبنان في مهب عاصفتي اليمن وسوريا

لبنان في مهب عاصفتي اليمن وسوريا

كتب المحرر السياسي:

يبدو أن “عين التينة” ما زالت تشكّل مصدات للرياح العاتية التي هبّت بين تيار المستقبل وحزب الله.  فالحوار بين الفريقين ما زال قائماً في قصر رئيس مجلس النواب نبيه بري، رغم التصريحات النارية المتبادلة بين الرئيس سعد الحريري وأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.

من الملاحظ أنه للمرة الأولى، يقوم بالهجمات رئيسا الفريقين.  فقد تعوّدنا أن تناط هذه المعارك بالصف الثاني.  إذ لم يسبق تولّي الحريري ونصر الله هذه المهمة بنفسيهما.  وهذا يعني أن الجانبين استعملا الطلقة الأخيرة، في طلاق هو الأبغض عند اللبنانيين.

لكن ما هو الدافع الذي رفع لغة التخاطب إلى هذا السقف العالي؟

من الواضح أن عاصفة اليمن قد اجتاحت لبنان، لتضاف إلى عاصفة سوريا، التي ما زالت تهدد البنيان اللبناني بالانهيار سياسياً وأمنياً … وبدرجة أكبر اقتصادياً بفضل النزوح السوري الكبير.

لا شك في أن حزب الله هو من بدأ بتعريض لبنان إلى ترددات الزلزال اليمني وذلك عبر الهجوم العنيف على السعودية خاصة، ودول الخليج عامة، الذي تولاه مباشرة السيد حسن نصر الله من خلال كلمة تلفزيونية أعدّت خصيصاً لهذا الغرض.

كان من الطبيعي أن يرد تيار المستقبل على الحملة غير المسبوقة، ضد دول يعمل فيها أكثر من 80 في المئة من المغتربين اللبنانيين، دون أن نغفل السبب السياسي الذي قسّم لبنان بين محورين، المحور الإيراني والمحور السعودي.

وباشتعال هذه الحرب التي يأمل اللبنانيون أن تبقى محصورة في إطاريها الإعلامي والخطابي، بات من الصعب أن ينأى لبنان بنفسه عن عاصفة اليمن، تماماً كما فشل في أن ينأى بنفسه عن عاصفة سوريا.

إذاً، نحن الآن نتنشق دخاناً يمنياً وسورياً، ونعرف جيداً أن “لا دخان بلا نار”.  وهنا يبرز السؤال المفجع عما إذا كانت النار ستنتقل، في لحظة ما، من الشاشات التلفزيونية والكلمات الملتهبة إلى الشارع الذي يغلي، رغم المياه الباردة التي يحاول حوار عين التينة إلقاءها على الجمر المذهبي، الذي يغطي الأرض اللبنانية.

من الواضح أن التهدئة بين الفريقين مستحيلة، إلا إذا سبقتها تهدئة دولية تنحسر معها “عاصفة الحزم”، وتدخل معها إيران نادي حسن الجوار.  وهي تهدئة تبدو بعيدة جداً، حتى ولو نجح الرئيس الأميركي باراك أوباما في إقفال الملف النووي الإيراني وثم رفع العقوبات، ومن ثم الإفراج عن 150 مليار دولار، هي مجموع الودائع الإيرانية المجمدة في دول الغرب.

لقد كرّر التاريخ نفسه مراراً مع العرب.  فالجراح العربية التي تُفتح من النادر أن يُسمح لها بالإلتئام.  إنها جراح مفتوحة نعتادها ونتعايش معها.

هذا ما تعلّمناه من النموذج الفلسطيني، وهذا ما تعلّمناه من إزالة آثار حرب 1967، التي ما زالت كاملة في الجولان المحتل وناقصة بإذلال في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو.

وهذا ما تعلّمناه في حرب لبنان الأهلية عام 1975، التي اختفت متاريسها وحافظت على وجودها، وإن تبدّلت اطرافها واختلفت أهدافها وأساليبها.

ولا يبدو كذلك أن جرح فبراير الليبي قابل للشفاء، حيث أن كل الدلائل تشير إلى استمرار القتل والتدمير والتهجير.  والجراح ايضاً مفتوحة في سوريا والعراق، والإرهاب ما زال ينمو في قلب مصر وعلى حدودها الليبية والفلسطينية.

في كل هذه الجراح يفتقد العرب، حتى الضمادات التي توقف نزيف الدم المتدفق بعبثية، وبعبث إسرائيلي وأميركي غير محدود، إلى درجة يمكن القول، دون أي مبالغة، أن إسرائيل لو استعملت كل قنابلها النووية لما استطاعت أن تدمّر وتقتل بحجم وكم ما فعله “الربيع النووي” في الوطن العربي.

نعود إلى لبنان الذي يدّعي النجاح في تحييد نفسه عن هذا المشهد الكارثي، الذي وصل حتى إلى دول الخليج عبر اضطرارها لخوض حرب “عاصفة الحزم”.

لقد حشر لبنان انفه على أراض في حربي سوريا واليمن، ولهذا انتشرت في سمائه السياسية والأمنية سحابات دخان هاتين الحربين، في انتظار أن تصل إلى أرضه نيرانهما، طال الانتظار أو قصر.

وإذا كانت الأحداث السورية تتصف ببطء انتقالها إلى لبنان، رغم التداخل الجغرافي والسكاني والسياسي والاقتصادي، فإن أحداث اليمن قد تكون هي الأسرع في الوصول إلينا.  ويعود ذلك إلى أن موادها اللبنانية أسرع انتشاراً واشتعالاً، لأن حرب اليمن تمسّ مباشرة لبنان السعودي ولبنان الإيراني.  وكذلك لأنها هي الحرب الأخطر في المنطقة.  فمن نتائجها إنتاج منطقة شرق اوسطية جديدة.  حيث ستغيب الشمس المهزومة وستشرق الشمس المنتصرة.  أي أنها حرب ستحسم نفوذ أحد المحورين، محور دول الخليج ومصر والأردن والمغرب، أو محور دول الممانعة إيران وسوريا والعراق ونصف لبنان.

من هنا يبدو حوار عين التينة مجرد حوار يائس.  إشكاليته الكبرى أنه لا يستطيع الانتقال من الشكل إلى المضمون.  حيث أن مضمون الخلاف اللبناني – اللبناني ليس لبنانياً … فهو في الواقع خلاف بين كبيرين في المنطقة السعودية وإيران … وبذلك لا نبالغ إذا قلنا أن الحل في لبنان يمرّ من عدن، وأن الطريق إليه هو الطريق إلى صنعاء، وإن طال السفر.

نزيف الشاشات: القنوات اللبنانية تغادر “متاريسها الإعلامية” بحثاً عن التمويل

كتب عبد الرحمن سلام:

قناة "أل بي سي" كانت السباقة في طرح خطة انقاذ الاعلام المرئي

قناة “أل بي سي” كانت السباقة في طرح خطة انقاذ الاعلام المرئي

“صناعة الإعلام اللبناني في خطر”.  هذا ما قاله أحد مدراء المحطات التلفزيونية اللبنانية، محذّرا من موجة الجفاف الإعلاني والشح المالي التي تضرب الاعلام المرئي في لبنان منذ فترة.

النزيف كبير، والمنافسة أكبر.  فـ”خريف” الإعلام اللبناني الذي أصاب الصحف والمجلات قبل سنوات، ها هو اليوم يدخل ستوديوات الانتاج ويعيد تسليط الأضواء على الأزمات التي تعيشها التلفزيونات اللبنانية خلف الكاميرا.

وفق الأرقام المعلنة، بلغت خسائر القطاع التلفزيوني 60 مليون دولار سنوياً.  وهي خسائر ناتجة عن تقلّص السوق الاعلانية، والمضاربات في الأسعار التي تخفّض تسعيرات الدقائق وتحد من المداخيل.

ولأن الانتاج اللبناني هو من مسؤولية القنوات اللبنانية فقط، دون غيرها من القنوات العربية (المصرية والخليجية) المحصّنة في مدنها الإعلامية في القاهرة ودبي، فبالتالي كان لا بد من دق ناقوس الخطر، حيث بادر القيّمون على التلفزيونات بوضع خطط إنقاذية، لا تزال تحظى بالدعم الرسمي “الشفهي”، لتخطي العقبات ومواجهة التحديات التي تهدد صناعة الاعلام اللبناني بالموت.

لكن قبل الدخول في تفصيلات الخطط الانقاذية، لا بد أولاً من التوقف عند الخلفيات والأسباب الحقيقية لتقهقر الواقع الإعلامي في لبنان. فمع احتدام الانقسامات اللبنانية بأبعادها الاقليمية والدولية، فرض المال السياسي أجنداته على الإعلام، وخصوصاً القنوات التلفزيونية، التي تحوّلت إلى سلاح تحريضي في المعارك السياسية والحملات الانتخابية.

وبات لكل شاشة مشاهديها ومعلنيها … ومموليها – وربما لونها الطائفي الخاص بها.  وبمتابعة بسيطة لمقدمات نشرات الأخبار، تتكشف الانتماءات السياسية لكل محطة، التي تضرب بعرض الشاشة أسس الموضوعية والمصداقية.

هذا الارتهان للمال السياسي حوّل الاعلام المرئي إلى سلاح في يد المتصارعين على السلطة، ولم تعد القواعد التجارية هي المتحكمة باللعبة التلفزيونية.  ومع تراجع تدفق المال السياسي لأسباب تتعلّق بالأزمات الاقتصادية من جهة، واستنزاف الممولين من حكومات وسياسيين في تداعيات “الربيع العربي” من جهة أخرى، بدأت الثغرات تظهر في ميزانيات المؤسسات الإعلامية اللبنانية، التي لجأت في بادئ الأمر إلى الحلول الأسهل إدارياً والأصعب إنسانياً، والمتمثلة في الصرف الجماعي للموظفين لترشيد النفقات وتخفيف الأعباء.

لكن يبدو أن هذه الحلول “البدائية” انعكست على نوعية الانتاج، ولم تكن كافية لسد النزيف المالي، أمام تقدم المنافسة من الاعلام المصري والخليجي المتسلح بإمكانات مادية ضخمة ودعم حكومي مطلق.

هذه المعاناة، دفعت بمسؤولي القنوات التلفزيونية اللبنانية إلى مغادرة متاريسهم الإعلامية، والتحرك في اتجاهات أكثر فعالية لإنقاذ مستقبل محطاتهم من الإفلاس.

وتركز الخطة الانقاذية المقترحة من رئيس مجلس ادارة “المؤسسة اللبنانية للإرسال انترناشيونال” بيار الضاهر، على العديد من النقاط التي من شأنها مساعدة القنوات الثماني على تقليص الخسائر المالية الكبيرة التي تتكبدها سنوياً.

أولاً، الطلب من الحكومة تخفيض الرسوم المفروضة على التلفزيونات اللبنانية، أسوةً بالمكاتب التمثيلية للقنوات العربية في لبنان، والتي تنتج وتصوّر معظم برامجها على أراضيه.

ثانياً، فرض بدل مادي على حقوق البث، سواء على المتلقي أو على أصحاب الكابلات، كما هي الحال مع محطات أو باقات أخرى، مثل شبكة “أو أس أن” وغيرها.  في هذا الشأن، يدرس القيمون فرض بدل اشتراك على الكابلات بمعدل أربعة دولارات شهرياً عن كل اشتراك، أي نصف دولار لكل محطة في الشهر، في سوق يبلغ إجمالي مشتركيه حوالى 800 ألف مشترك، أي ما يعادل الـ400 ألف دولار شهرياً ستضاف إلى رصيد كل تلفزيون شهرياً.

ثالثاً، تحسين سرعة خدمة الانترنت، ما يتيح للقنوات الإفادة من الإعلانات الرقمية، كمصدر دخل إضافي، إلى جانب التفكير بفرض رسوم على المشاهدة الالكترونية على غرار المواقع الإخباريّة والترفيهيّة الأجنبيّة.

رابعاً، طلب إلغاء الرسوم عن سيّارت البثّ المباشر، وإنشاء “غرفة انتاج اخباري” موحدة، تعنى بكل ما يتعلق بـ”البث المباشر” المخصص بغالبيته للنشرة الاخبارية، بحيث تتمكن المحطات من الحصول على الصور والمشاهد “الموحدة”، بدلاً من أن تتكبد (منفردة) تكلفة وعناء ارسال فريق عمل. وبمفهوم اكثر وضوحاً، ان تشكل هذه الغرفة المقترحة انشاء “وكالة أنباء محلية” تتولى توزيع المعلومة والصورة (ذاتها) على مختلف المحطات.

خامساً، وهي النقطة الابرز المقترحة في “خطة الانقاذ”، تحديد أسعار الاعلانات، حيث لا تتغير أو تتبدل، بهدف الحد من بازار تحطيم الاسعار ووقف المضاربات الشديدة بين المحطات.

برأي أكثر من مصدر مطلّع على مجريات المشاورات الدائرة خلف الكواليس، فإن نقاط الاختلاف والخلاف لا تزال أكبر وأكثر من نقاط التفاهم والالتقاء.  فهناك العديد من المواضيع لا تزال قيد المناقشات “المتشددة”، بعضها جوهري، وبعضها مبدئي، لكنها، في الحالتين، اساسية وفي العمق، لا سيما منها نقطة “توحيد الانتاج” لأنها تعني الحد من التميز والابداع، من جهة، وتفرض في المقابل، تبادل النجاحات وبثها على مختلف الشاشات، من جهة ثانية.

وترى المصادر أن الفائدة من “توحيد الانتاج” ستكون متفاوة بين شاشة وأخرى. فالـ”ال بي سي” على سبيل المثال، ستستغل هذه النقطة لحصر انتاجها الخاص ضمن برامج معدودة ومحددة، كأن تتوجه الى الانتاج الدرامي (المسلسلات) التي تستحوذ على نسبة كبيرة من المشاهدة. في المقابل، تعمل محطة “أم تي في” (ودائماً على سبيل المثال) على انتاج البرامج الترفيهية والفنية ذات الانتاج الضخم المعتمد على الابهار، ثم تتشارك المحطتان في عرض الانتاجين. هذا المثال، يسري كذلك على باقي المحطات، بحيث يصبح امام المعلن “عيّنة” من الانتاجات ذات المواصفات الجيدة والمحلية، ما يتيح للقنوات التحكم بأسعار المادة الاعلانية، ومضاعفتها ـ إن ارادت ـ على أن توزع العائدات على المحطات، كل بنسبة تتوازى مع تكلفة الانتاج.

طموح “مشروع”، لكنه غير قابل للتطبيق ان لم نقل يستحيل تحقيقه.

بدليل، أن أبسط “النقاط” لسد ابسط الثغرات المالية من خسائر المحطات اللبنانية اصطدمت بالعقبات والحواجز، عندما طرحت المحطات المذكورة موضوع تنظيم العلاقة بينها وبين شركات “الكابل” لبحث موضوع انتقال الشاشات اللبنانية من ضفة “البث المجاني” الى ضفة “البث المدفوع”، من خلال اقتطاع بدل مالي من اصحاب “الكابلات” (بمعدل 6 آلاف ليرة لبنانية على كل مشترك)، اسوة بما يدفعه اصحاب الكابلات لشركات تلفزيونية أخرى، حيث اشترط اصحاب المحطات اللبنانية عدم تحميل المواطن اللبناني اي تكلفة اضافية.

إلا أن المعركة مع اصحاب “الكابلات” ستكون صعبة، إذ يعتبر هؤلاء أن أصحاب المحطات عمدوا الى “تهديدهم”، معتمدين على مرجعياتهم السياسية.  في المقابل، يرى مسؤولون في محطات التلفزة اللبنانية، أن “موزعي الكابل” يحققون ارباحاً خيالية، وبشكل غير مشروع اساساً، ويخالف كل القوانين اللبنانية، وبالتالي، من المفروض أن يتنازلوا عن جزء من ارباحهم، لايصال بث الشاشات اللبنانية المحلية الى اللبنانيين، وأنه من الطبيعي أن يدفعوا الى المحطات اللبنانية، كما يدفعوا الى غيرها، لبث “باقاتها البرامجية”، حيث تتقاضى “أو أس أن” 1300 ليرة لبنانية من اصحاب الكابلات عن كل مشترك، ما يعني “التلميح” الى وجود تنسيق ضمني مع ممثليها في لبنان، لزيادة التعرفة على موزعي الكابل فور فرض التلفزيونات المحلية للتعرفة على هؤلاء الموزعين.

صحيح أن “مصيبة” الخسائر المالية قد جمعت مختلف اطراف قطاع الاعلام المرئي في لبنان، ولكن، ورغم “الشح” في موارد مختلف الشاشات اللبنانية، يتبقى من الأمور ما هو متقدم على الآخر. فهل تكون خطوات هؤلاء الأقطاب “الانقاذية” ـ إذا جازت التسمية ـ خشبة الخلاص للاعلام المرئي مجتمعاً، أم أن في الأمر، وكما يتوقع المراقبون، “قطبة” ذكية هدفها “استثمار” الضعفاء لنجاحات “الأقوياء”؟ أو “ابتلاع” القروش الكبيرة للأسماك الصغيرة.

ما هو ظاهر، حتى اللحظة، وفي ظل معطيات الانكماش الكبير الذي أصاب الاقتصاد العربي بشكل عام، جراء ترددات ما عرف بـ”الربيع العربي” على الواقع اللبناني، هو ان القطاع الاعلامي المرئي (ومعه المكتوب) سيستمر لفترة طويلة من دون أي انفراجات مالية تذكر، ما يعني امكانية استنزاف قسم كبير من هذا القطاع للكثير من فعاليته وقواه البشرية والتقنية، مع امكانية أن تعلن المحطات، الواحدة تلو الأخرى، رفع الراية البيضاء، وبذلك، ربما تخلو الساحة أمام “أحادية” أو “ثنائية” أو ربما “ثلاثية” ـ في أحسن الأحوال ـ تلفزيونية اما سياسية او تجارية احتكارية او الاثنين معاً، وذلك لن يتم إلا عبر “الدمج” أو “التعويم” أو… الاقفال.

في كتاب “أسطورة الحياد: استقلالية الاعلام اللبناني” لآمنة المير، تتوصل المؤلفة الى خلاصة أن “المؤسسات الاعلامية في لبنان، تكون في الغالب، إما منبراً لمالكها، أو معبرة عن توجهات جهة التمويل، وان هناك ضعفاً في التزام المؤسسات الاعلامية بالموضوعية والشفافية والأمانة، في ظل عدم توافر الاستقلالية المالية والسياسية. كما ان الاعلام اللبناني يلعب دوراً مهماً في التأثير في الرأي العام، وان هناك وجوداً للآثار السلبية الكبيرة في مهنة الاعلام، في ظل التبعية السياسية والمالية”.

في ظل هذه الخلاصة، تطرح التساؤلات التالية نفسها: الى أين يتجه الاعلام المرئي في لبنان؟  وهل “خطط الانقاذ” سيكون لها فعلاً دورها الانقاذي، أم أنها مجرد “حبة اسبرين” تحاول علاج داء سقيم؟

حروب سلام: حكومة صامدة على جبهات التعطيل والإرهاب

الرئيس تمام سلام

الرئيس تمام سلام

كتب المحرر السياسي:

بعد أن فشل «الإضراب» الحكومي في فرض الآلية الدستورية على عمل مجلس الوزراء، فك «الإضراب» باعتماد آلية «عالوعد يا كمون».

وهكذا يعود مبدأ الإجماع ليقود غرفة عمليات مجلس الوزراء، مع وعد من الفرقاء بعدم التعطيل، وبالتالي، تيسير وتسيير مصالح البلاد والعباد.

إن إقرار «التيسير والتسيير»، يعني أن ما كان متبعاً من قبل هو تعطيل المصالح العامة. وفي هذا اعتراف ضمني من قبل الوزراء باتباع سياسة النكاية والكيدية.

ويبقى السؤال المشروع:

هل سقطت فجأة مكارم الأخلاق الوطنية، أم أن وعد عدم التعطيل قدم للإلتفاف على «الإضراب» الحكومي ولإمتصاص غضب الرئيس الصابر تمام سلام؟.

من المعروف أن أفرقاء الحكم غالباً ما يأخذون بعودة حليمة الى عاداتها القديمة.

إذاً، على الرئيس سلام استغلال «الوعد» الطازج بعدم التعطيل، بأن يطرح في جلسات مجلس الوزراء المتتالية أهم البنود الخلافية، فإما أن تقر، وإما أن تفضح مبكراً الواعدين وما وعدوا به.

لا أحد يصدق أن سياسيي لبنان قادرون على التوافق. يكفي أن تتمسك بالفيتو كتلة وزارية واحدة من الكتل الست التي تشكل مجلس الوزراء (كتلة عون ـ وكتلة أمل ـ وكتلة حزب الله ـ وكتلة المستقبل ـ وكتلة الكتائب ـ وكتلة المستقلين) ليسقط الوعد، وبالتالي، ليعود مجلس الوزراء الى أجواء الجمود والتجميد.

إن «التوافق»، وفق التجارب، هو من مستحيلات السياسة اللبنانية. ولهذا يدرك اللبنانيون أنهم عاجلاً، وليس آجلاً، سيجدون حكومتهم عاجزة عن الحل والربط.

ومع ذلك فإن هذه الحكومة ستبقى عبئاً لا يمكن التخلص منه، حتى ولو كانت الفراغ الذي يملأ الفراغ. فمن دونها لا يبقى في لبنان سلطات سوى سلطة الأجهزة الأمنية… وشرطة السير.

ومن حسن حظ لبنان أن يكون الرئيس تمام سلام رئيساً لحكومة الزمن الصعب والعلاقات المتشنجة. فصبره على القرف السياسي، من أجل الحفاظ على شكل الدولة، لا يضاهيه صبر أي سياسي آخر.

صحيح أن عقدة مجلس الوزراء اللبناني، هي أكثر العقد التي تعرقل الأداء العام، إلا أن لبنان يعيش في ظروف تنبت فيها التعقيدات كالفطر… وأخطرها لم يصل بعد، وإن كانت ساعته آتية لا ريب فيها.

وسط العواصف التي تجتاح لبنان من خارجه… ووسط التموضعات والانقسامات الحادة في الداخل، يطل حوار المستقبل ـ حزب الله، كإطفائي في وطن قابل للاشتعال. لكن هل تسمح القناعات المتعاكسة لإطفائية الحوار في أن تنجح بلعب دور الإطفائي؟.

إن التناقض الكبير بين التفكيرين يرجح كفة الشك بجدوى الوصول إلى اتفاقات  قابلة للتنفيذ. فما يحصل في المنطقة يمنع لبننة الحل… وشعار «لبنان أولاً» الذي يطرحه «المستقبل» لا يمكن له أن ينتصر على استراتيجية «حزب الله» التي تتجاوز حل الأزمات اللبنانية الى حل أزمات المنطقة. وإذا كانت هذه الشعارات تبدو عامة، فإن الغوص في تفاصيلها يضع لبنان في قلب الأحداث الملتهبة من حوله الى حد الآن.

مع التطورات الميدانية في سوريا يزداد تورط الدول القريبة والبعيدة. ولا يعتقد، أي مراقب أو باحث، أن بمقدور لبنان النأي بنفسه في حين أن مروحة الدول المتورطة في الحروب الشبه أهلية في دول عربية مركزية، آخذة بالاتساع. ولو تمعّن أي محلل استراتيجي لوجد أن لبنان قد دخل الحرب السورية فعلاً. فجزء من شعبه يقاتل هناك. وجيشه يقاتل من حيث لم يقرر، الى جانب الجيش السوري ومقاتلي حزب الله في منطقة جرود عرسال. ولا يحتاج أي محلل لدلائل حول أن لبنان هو المقر الأكثر احتمالاً لأي عناصر تلحق بها هزيمة عسكرية سواء  على جبهة عكار أو جبهة عرسال. هذا الى جانب ما هو موجود من تنظيمات إسلامية متطرفة داخل لبنان أكانت خلايا نائمة أو خلايا ناشطة.

ولا يجب أن يغيب التورط اللبناني القسري اقتصادياً واجتماعياً في الأحداث السورية. فمليون ونصف المليون نازح سوري لا يشكل عبئاً اجتماعياً وإنسانياً فقط. إنه عبء اقتصادي كبير في اقتصاد هو نفسه يعاني من أمراض خطيرة، فمشاركة المليون والنصف مليون سوري للبنانيين في الماء والكهرباء والغذاء وسوق العمل، هو نتيجة لبنانية لنتائج الحرب السورية.

في جملة هذه العلاقات المتشابكة والشائكة، ولأن اللبنانيين، كالسوريين، قد انقسموا الى جبهتين، واحدة مع النظام الى حد القتال الى جانبه، وواحدة مع المعارضة الى حد تشكيل البيئة الحاضنة… وربما المقاتلة إذا اقتضت طبيعة التطورات العسكرية ذلك.

بعد كل هذا هل يمكن القول أن لبنان لم يدخل الحرب السورية بعد.

الواقع يؤكد أنه جزء منها وإن لم يعلن ذلك. ومثل هذه النتيجة تعيدنا الى الحكومة المعطلة. فالتعطيل هو تحضير لوضع اللبنانيين في حالة من الفوضى والإحباط، وبالتالي، تعميق الانقسام المذهبي الذي يجرف الفرقاء الى التعصب لهذا الفريق السوري أو ذاك. وغالباً ما يندفع المتعصب من المؤيد نظرياً الى المشارك ميدانياً… وعندئذٍ من ينقذ لبنان؟.

 

إزالة الشعارات لا المشاعر: تغيير «قواعد الاشتباك» في شبعا لا يغير «قواعد الحوار» في عين التينة

تغيير "قواعد الاشتباك" بعد عملية شبعا

تغيير “قواعد الاشتباك” بعد عملية شبعا

Hassan Nasrallahكتب المحرر السياسي:

منذ أن قام مجلس الأمن وحق الفيتو محصور في خمس دول هي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وانكلترا والصين.

هذه الدول فقط أعطيت فرادى حق تعطيل الحلول وتعقيد الأمور في العالم. إلا أننا نخضع في لبنان لـ24 فيتو. فأي وزير في حكومة تمام سلام يعادل دولة من الدول العظمى الخمس.

ومنذ تأسيس الأمم المتحدة في العام 1945، أي منذ 70 سنة الى اليوم، استخدم الاتحاد السوفياتي سابقاً، وروسيا لاحقاً، حق الفيتو 123 مرة. والولايات المتحدة 76 مرة. وبريطانيا 32 مرة. وفرنسا 18 مرة. وأخيراً الصين 8 مرات.

كل مشاكل العالم وأزمات دوله الـ193، وخلال 70 سنة، تعرضت لـ257 فيتو، في حين أن دولة بحجم لبنان، وفي أقل من سنة، استخدم فيها وخلالها الفيتو عدة مئات من المرات. ومجلس الوزراء شاهد على حضور الفيتو الدائم في كل جلسة يضم جدول أعمالها بنداً لا يتفق مع هوى ومصالح هذا الوزير أو ذاك.

قرارات ومراسيم ومشاريع قوانين بالجملة سقطت بضربات الفيتو القاضية. فتعطلت مصالح البلاد والعباد. وعاش الوطن مرحلة القرارات الحكومية التي لا تعالج أزمة ولا تحل مشكلة ولا تشكل انجازاً.

إن أصحاب معالي الـ«لا» يساهمون في كل جلسة حكومية بشل عمل الحكومة. وهذا ما جعل الرئيس تمام سلام يفكر في وسيلة لإلغاء فيتو الوزير كي يعود لمجلس الوزراء سلطته وقدرته على معالجات الأزمات الحادة التي تتطور من أزمات بسيطة الى أزمات معقدة.

إلا أن الأمر ليس سهلاً، والرئيس سلام يعرف ذلك جيداً. فحق الفيتو الذي تتمتع به القوى السياسية الممثلة في الحكومة، وبالتالي، قدرتها على التحكم بمسارات الحكم، يجعل محاولة إلغاء مثل هذا الحق محاولة مستحيلة.

هذا في الوضع الحكومي البائس. أما في الوضع السياسي، فما زالت الحوارات مستمرة تحاشياً لإعلان فشلها وما قد ينتج عنه من تداعيات سلبية سلبت اللبنانيين احساسهم بالأمن والأمان.

في ما يتعلق بحوار المستقبل ـ حزب الله، فالجلسات الحوارية تعقد لرفع العتب والغضب الشعبي فيما لو انسحب أحد الفريقين منها.

ودلالة على عجز المتحاورين عن البحث في الأزمات الحقيقية بينهم، تم التوافق على إزالة الصور والشعارات… وبقيت المشاعر المذهبية تتآكل في الصدور من دون أن تجد ما ينقذها على أرض الواقع.

ورغم ذلك فإن الحوار مستمر. إذ تجاوز تيار المستقبل لكلمة السيد حسن نصر الله بعد عملية شبعا عندما أعلن سقوط قواعد الاشتباك مع العدو الصهيوني، وما في ذلك من إسقاط للقرار 1701، الذي كان يعتبر حامياً للاستقرار في لبنان. وكذلك ما رافق كلمة السيد حسن نصر الله من الإطلاق الكثيف للرصاص والقذائف الصاروخية، مما جعل سكان بيروت يعيشون حالة من الهلع والرعب. وفي مقابل ذلك تجاوز حزب الله هجوم تيار المستقبل على كلمة أمينه العام بالقول أنه خطاب «متفرد ومتسرع يلغي إرادة الشعب اللبناني ومؤسساته الدستورية الملتزمة بالقرار رقم 1701». وكذلك تحريك النيابة العامة، بطلب من وزير العدل المستقبلي أشرف ريفي، لملاحقة مطلقي النار.

إذاً الحوار مستمر حفاظاً على الشكل، وربما السمعة، لكن الأمور على الأرض تتجه الى مزيد من التعقيد والعقد.

وبعيداً عن الحوار، فإن المحللين يرون في قواعد الاشتباك الجديدة التي وضعها السيد نصر الله، أن السيد ألزم نفسه، ومن ثم، لبنان برد ناري شامل على إسرائيل يتجاوز الخطوط الزرقاء والحمراء.

ويرى المحللون أن مجرد تعرض مقاتل، أي مقاتل، من حزب الله للاغتيال  في أن ذلك يعني إشعال حرب على إسرائيل تمتد من غزة الى إيران. وطبعاً مروراً في لبنان كساحة مركزية لهذه الحرب.

ويبقى بذلك مستقبل المنطقة محصوراً بين خضوع إسرائيل لتهديدات السيد نصر الله، وبالتالي، الامتناع عن القيام بأي عمل ضد حزب الله، وبين التزام السيد نصر الله بما هدد وتوعد بالرد في أي مكان وكيفما كان.

 

الحواران الإسلامي والمسيحي: إقتناص الفرص أم إضاعة الفرصة

جعجع وعون في صورة من الارشيف

جعجع وعون في صورة من الارشيف

كتب المحرر السياسي: 

تتنقل أزمات لبنان ما بين السماء والأرض.

العواصف لا تهدأ ولا تتراجع.

وإذا كانت عاصفة «زينة» قد طغت بعنفها، وعمّ صقيعها كل أنحاء البلاد، فإن صقيع معالجات الأزمات المستوطنة مؤسسات لبنان ما زال يمنع المسؤولين من الاقتراب وملامسة الحلول خوفاً من أن تلسعهم برودة الحلول أو حرارة المشاكل المشتعلة.

وفي الحالة اللبنانية النادرة، وربما الوحيدة في تاريخ الدول، فإن الفراغ ليس شرطه شغور الموقع، كما هو الوضع في رئاسة الجمهورية، فمن الممكن أن يكون الفراغ واقعاً بقوة التعطيل المتعمد، كما هو الوضع في مجلسي النواب والوزراء.

من حيث الشكل فإن المؤسسات الدستورية قائمة، لكنها بالفعل هي مؤسسات عاجزة من كثرة العصي  التي تمنع دواليبها من الحركة.

لقد أخطأ الرئيس تمام سلام عندما استسلم لعقدة الإجماع الوزاري، وأسس بذلك لعقدة أمرّ وأدهى من عقدة الثلث المعطل، لتحل محلها عقدة الوزير المعطِّل. فحتى الله لم يجمع الناس على دين أو رأي واحد. فكيف إذاً سيجمع الرئيس سلام وزراءه الأربع والعشرين على قرار واحد؟.

ولهذا، فإن ما تم اختراعه من معطلات جعل الفراغ والنصاب في السرايا حالتين تتناقضان بالمفهوم وتتساويان بالفعل، فنحن إذاً أمام شبه فراغ حكومي لا تمر من بين أيديه سوى القرارات التافهة التي تحظى بإجماع لا يحضر إلا عند بحث التفاهات.

وإذا كان مجلس الوزراء، وعلى مدار عدة جلسات، لم ينجح في الاتفاق على موضوع «الزبالة»، فلا يحق لنا أن نلومه إذا استمر في عجزه عن الاتفاق حول سلسلة الرتب والرواتب، التي لا يدري أحدٌ ما إذا كانت قد ماتت في مهدها أم أنها ما زالت قادرة على البقاء قيد الحياة.

لا يمكن استعراض كل ما هو كبير ومعطل في مجلس الوزراء، ولا يمكن كذلك سرد مجموعة القوانين، التي لا تجد نصاباً يلمها في مجلس النواب. لكن يمكن استعراض تداعيات هذا الإستخفاف السياسي والدستوري في دولة لم تعد تبعد كثيراً عن إعلانها دولة فاشلة. فكل الطرق التي يسلكها المسؤولون والسياسيون تؤدي الى سقوط لبنان. أما التغني بقدرات اللبناني على ابتداع الحلول، والتغزل بمعجزاته الإقتصادية… فكل هذا لا يخرج عن كونه ورم سرطاني نرفض الإعتراف به.

بصيص الأمل الوحيد المتسرب في النفق المظلم الذي يسير فيه لبنان، هو في حوارين أصبحا حديث البلد.

حوار المستقبل وحزب الله، وحوار الوطني الحر مع القوات.

مشكلة الحوار الأول الذي انطلق، أن فيه عدة أبواب مغلقة ممنوع فتحها. كالرئاسة الأولى، وسلاح حزب الله، والتدخل في سوريا، ومحكمة لاهاي، ومع ذلك يمكن لهذا الحوار أن يسهم في انقاذ الحد الأدنى، إذا وصل المتحاورون الى الحد الأدنى من جدية الإنقاذ.

والإنقاذ المطلوب، قبل تحسين العلاقة بين الفريقين، هو إنقاذ الحكومة من التعطيل. أي العودة الى الثلث المعطل، لا الاستمرار في الوزير المعطِّل. إذ من غير المعقول أن يكون الوزير ملزماً بقرار الثلثين، وعندما يصبح جزءاً من كعكة رئاسة الجمهورية يصبح معطلاً لما التزم به في مجلس الوزراء.

إن إلغاء بدعة «الوزير المعطِّل» يعيد للحكومة دورها وقدرتها على معالجة شؤون الناس والدولة معاً. ويبدو أن هذا الموضوع، على أهميته، غير وارد في الجدول الحواري. وهذا يعني أن وباء الفراغ سيبقى ضارباً في القرارات الحكومية الكبرى.

وثاني القضايا الغائبة عن الحوار هي إعادة الحياة الى المجلس النيابي. وذلك بإلزام كتل الفريقين المتحاورين بحضور جلسات مجلس النواب كافة والامتناع عن الغياب، لتعود المؤسسة التشريعية لأداء مهامها الدستورية، وبالتالي، سن القوانين ومراقبة الحكومة وميزانيتها وغير ذلك من واجبات أناطها الدستور بنوابه.

وبعودة الحياة الى الحكومة ومجلس النواب نكون قد أبعدنا مخاطر انهيار الدولة. لتسير البلاد عندئذٍ تحت مظلة الدستور، لا عبر سياسة مخالفة الدستور وخرقه.

عندما يتوافق المستقبل وحزب الله على هاتين النقطتين، يكون للحوار نتائج على مستوى الوطن. أما إذا بقي الحال على ما هو عليه من حكومة تعجز عن اصدار المراسيم، ومن مجلس يعجز عن تأمين النصاب، فإن الحوار سيكون عبارة عن تسوية جزئية لخلافات خاصة… ستعود حتماً للغرق في الخلافات الوطنية وكأن الحوار لم يكن.

وأمر الحوار الثاني بين جعجع وعون سيأخذ المسار نفسه وسيصل الى النتائج نفسها إذا ترك الأمراض الوطنية تتفاقم وحصر  حساباته في تأسيس لعلاقات ستبقى ضيقة حتى ولو وصلت المصافحات بين العماد والحكيم الى حالة من العناق والقبل.

إذاً تيار المستقبل وحزب الله، وكذلك القوات والتيار الوطني، هم جميعاً بين خيارين: اقتناص الفرص… أو إضاعة الفرصة… فكيف إذا كانت الأخيرة.

مناورة «المؤتمر التأسيسي»: متاريس الفراغات

كتب المحرر السياسي:

كما الأحداث تتطور نحو الأسوأ، كذلك الخلافات السياسية.

إن نجاح الجيش في ضرب الإرهاب في طرابلس، لا يعني القضاء عليه. فما زال للإرهاب جولات تهدد لبنان. وقد تكون  متعددة الأمكنة ومعززة بالإمكانيات الإضافية.

ولا يجب الإتكاء كثيراً على نفي «البيئة الحاضنة» للقول أن الإرهاب لن يتمكن من العودة الى العبث في أمن البلد واستقراره. فالإرهاب لا يحتاج الى الحضانة، لأنه يعتمد سياسة الكر والفر، فأغلب عملياته تأخذ بنظرية «إضرب… واهرب». بدليل أنه هرب من عرسال وما زال يهددها ويهدد جوارها. وقد يكون هروبه من طرابلس أحد تكتيكاته حيث لا تُستبعد عودته ولو بعد حين.

الإرهاب يتقن إقتناص الفرص، وفرصته الآخذة في التزايد تكمن في الخلافات السياسية المتفاقمة، والتي تشكل له «البيئة الحاضنة» الحقيقية.

لا شك في أن «المزايدات» بين التيارات السياسية المختلفة توفر ثغرات آمنة لعبور الإرهاب الى العمق اللبناني. وهي أكثر حماية للإرهابيين من سكان بضعة أحياء أغلب بيوتها آيلة الى السقوط، ويعيشون في خوف من الإرهابيين والدولة معاً.

هذا يعني أن الخلافات السياسية تغذي الإرهاب، وأن الإرهاب يغذي الخلافات السياسية. فكلاهما ينمو على حساب الآخر.

ولأن الغموض والسرية يكتنفان النشاط الإرهابي، يصبح الكلام عنه نوعاً من التنظير و«التبصير». في حين أن الخلافات السياسية مكشوفة وبلا ستر يغطيها. وهي كالأمراض المستعصية لا دواء لها، وكل محاولات المعالجة التي طرحها الرئيس الحريري، لم تمنع اتساع انتشارها في «المجتمعات» اللبنانية، التي كانت في يوم ما مجتمعاً واحداً.

وإذا كان الاهتمام بالفراغ الرئاسي قد تراجع الى ذيل طابور الاهتمامات الوطنية، فإن الفراغ النيابي، سيشكل الطعنة القاتلة للبنان وكيانه وميثاقه وطائفه ودستوره.

من الواضح أن هناك من يسعى الى تراكم الفراغات. والتمديد للمجلس الحالي لن يوقف الاستمرار في السعي الى الفراغ الكبير والقاتل عندما يطرح «التمديد الثالث». وهو أمر آت لا ريب فيه، مع الاصرار على عدم انتخاب الرئيس. وهو اصرار لا يبدو أن ثمة أملاً في الرجوع عنه، إلا إذا انقلبت طاولة الأحداث وتبدلت اتجاهات الرياح.

لم تعد الغاية من سياسة «تراكم الفراغات» خافية على المراقبين. فأنصار هذه السياسة يعملون على تعطيل المؤسسات في انتظار التوقيت المناسب لتوجيه الضربة القاضية، عندما لا يكون من حل للمأزق اللبناني الكبير سوى انتخاب المؤتمر التأسيسي لوضع دستور جديد للبنان، يجعل الأكثرية النسبية تتحكم بالأقليات الكبيرة والصغيرة، والتي بتوافقها، عبر العرف اللبناني التاريخي، تشكلت صيغة العيش المشترك.

لا شك في أن القفزة الى مثل هذ النوع من الديمقراطيات في بلد يختلط فيه حابل الطوائف بنابل المذاهب، سيكون قفزة نحو تهديد السلم الأهلي، لسبب لا يمكن انكاره. فلبنان بلد يعيش على العصبيات الدينية، ومشهود له بتبدل التحالفات وفق المصالح الطائفية والمذهبية. وليس أمام المذهب الذي، يسعى الى الحكم، سوى التحالف مع مذهب آخر على حساب باقي المذاهب، التي ستجد نفسها مضطرة للتحالف بدورها لمواجهة التسلط الحاكم.

صحيح أن الصراع في لبنان يبدأ سياسياً، لكنه سرعان ما يتحول الى صراع دموي في الشارع، وسرعان ما يستبدل فيه رفع اليافطات برفع السلاح.

إن الديمقراطية، بمفهومها الأكثري، تحتاج الى مجتمعات مدنية وعلمانية، كما في البلاد الراقية، لا الى مجتمع طائفي ومذهبي ومسكون بكراهية الآخر، كما في لبنان.

إن نفي فكرة المؤتمر التأسيسي، لا يلغي العمل من أجله. ومثل هذا التحول الكبير في النظام اللبناني، يحتاج الى وقت لم يحن أوانه بعد. وأبطال هذا التحول يدركون جيداً أن عليهم الانتظار لحين استكمال «تراكم الفراغات» ووصولها بالتالي الى الفراغ الأكبر، أي الفراغ النيابي، الذي به يتم تكريس الفراغ الرئاسي، والذي من بعده يصبح الفراغ الحكومي قائماً حتماً وبحكم الدستور.

وإذا كان التمديد الثاني لمجلس النواب قد مرّ بإجماع، لا ينقصه إلا عون وبعض الممتنعين عنه والراغبين به، فإن ذلك قد تم لأن ظروف «تراكم الفراغات» لم تنضج بعد. فما زالت أحداث المنطقة ملتهبة ولا تسمح بالانقلاب على الطائف. لكن الأمور، من الممكن أن تكون ملائمة عندما يحين موعد التمديد الثالث، وعندئذٍ يمكن الانقضاض على المجلس النيابي، وعندئذٍ أيضاً يكتمل «تراكم الفراغات» ولا يعود في الدستور ما يحمي المؤسسات أو يعيد بناءها. ومع الوصول الى هذا الباب الدستوري المغلق، يصبح اللجوء الى انتخاب المؤتمر التأسيسي هو الحل الوحيد المتاح لإعادة صيغة الدولة الجديدة لدولة قديمة قضى الفراغ على كل مؤسساتها.

وإلى أن تمر السنتان والسبعة أشهر، التي نفخها النائب نقولا فتوش في عمر المجلس النيابي، فإن لبنان سيستمر في معايشة القلق والعجز عن إيجاد الحلول لمشاكله العويصة، سواء انتخاب الرئيس، أو تثبيت الأمن، أو السيطرة على تجمعات النازحين السوريين، أو الخروج من الأزمات المعيشية والاقتصادية، التي يبدو أنها مواصلة السير في طريق التفاقم.

إن اللبناني السوي في عقله ووطنيته، لا يجد سبباً مقنعاً يمنع انتخاب الرئيس وفقاً للأصول الدستورية، ولا سبباً مقنعاً يبرر التمديد لمجلس لا يجلس نوابه على كراسيهم.

وما يدهش هذا اللبناني السوي، أن كل فريق يحمّل الآخر وزر الفراغ الرئاسي.

وفي المسرح السياسي اللبناني يصبح من يحضر الى جلسات الانتخاب معطلاً لها والممتنع عن حضورها مسهلاً لاكتمال نصابها.

وفي هذا المسرح «اللامعقول»، يرشح فريق 8 آذار العماد ميشال عون ويمتنع عن انتخابه، طالما أن المرشح المنافس سمير جعجع.

وفي مسلسل «اللامعقول» يطالب فريق 8 آذار بتخلي الفريق الآخر عن مرشحه، في حين يتمسك هو بمرشحه، ويرفض البحث عن مرشح ثالث يملأ الفراغ، الذي بدأ يحتله التطرف، أو يستغله على الأقل.

وسط هذه التراجيديا السياسية تبرز الدعوات الى الحوار، وقد جربه الرئيس بري من قبل، والرئيس سليمان من بعد، ولم يؤد سوى الى أمنيات رملية في زمن ممطر وعاصف جعلها تتطاير وكأنها لم تكن.

يبدو، يقيناً، أن الأزمة اللبنانية متشابكة بأزمات المنطقة… وبناء عليه أبشر بطول أزماتك يا لبنان.

 

السيناريو الأسود: مخيمات للنازحين اللبنانيين… متى وأين؟

جندي لبناني في عرسال

جندي لبناني في عرسال

كتب المحرر السياسي

توحي تشكيلتها، التي جمعت مختلف الفرقاء، أنها حكومة “إئتلافية”.  وتؤكد نتائج إجتماعاتها أنها حكومة “إختلافية”.  فباستثناء الإتفاق على استمرارها، تعجز حكومة تمام سلام عن اتخاذ أي قرارات يمكن أن توصف بالمهمة.

ليست هذه هي المشكلة، لأن اللبنانيين تعودوا على تأجيل البت في القضايا الكبيرة، كما تعودوا على المماطلة في اتخاذ القرارات التي تستدعي الاستعجال.

المشكلة لا تكمن في هذا “التجمع” الوزاري المختلف والمتخلّف عن اتخاذ الاجراءات لمواجهة الانفلات الأمني والكهربائي والمائي والاجتماعي، بل في غياب خطة لمواجهة أحداث يتوقّف عليها مصير البلاد وصيغة حكمها، وصولاً ربما إلى وحدة أرضها.

ومما يزيد الظروف تعقيداً، استمرار الفراغ الرئاسي، وتفرّد كل وزير بصلاحيات رئيس الجمهورية، حيث أن وزيراً واحداً من الـ24 يستطيع أن يعطّل استحقاقاً، ويبطل مرسوماً، ويشلّ مصلحة أو مؤسسة.

الخلاصة أن لبنان يعيش أحداثا لا يملك سلطة تنفيذية حقيقية لمعالجتها.  والأدهى أنه ينتظر أحداثاً أكبر وأكثر خطورة، فكيف يتجنبها إذا كانت حكومته منقسمة بين متورّط مباشرة مع طرف في هذه الأحداث، وبين متعاطف مع الطرف الآخر؟

والأشد إثارة للمخاوف أن لا المتورّط ولا المتعاطف في وارد التراجع عن موقفه، رغم أن الكارثة السورية بدأت بالتمدد إلى لبنان القريب منها، ومن دون أن نعد لها العدة، فيما نجد الدول البعيدة قد تجمّعت ووضعت استراتيجيتها العسكرية لمنع آثار ما يحدث في سوريا والعراق من الوصول إليها.

لا بد في البدء من ملاحظة التطور السريع للأزمة السورية.  فما بدأ في مدينة درعا القريبة من الجولان المحتل، والأقرب إلى الأردن، الذي تعصف بعلاقاته مع سوريا رياح من التوتر المخفي أحياناً والمعلن في أكثر الأحيان، تسارَعَ لينتشر كحرائق الغابات في كل سوريا، باستثناء العاصمة دمشق وبعض الساحل.

وتَسارَعَ الحدث إقليمياً، فدخل إلى جانب النظام مباشرة “حزب الله”، وبشكل غير مباشر العراق وإيران.  ودخلت إلى جانب المعارضة المسلحة دول كتركيا وقطر.  ثم ما لبثت الأحداث السورية أن استولدت تنظيمات إسلامية متطرفة، نقلت الصراع إلى العراق، لتصبح بلاد الرافدين جزءاً وثيق الصلة بالحالة السورية.  وهذا التمدد أدى إلى دخول كردستان العراق حلبة الصراع.  وكاد لبنان يسبقها عبر معركة عرسال المفتوحة.

وتسارع الحدث دولياً، فاستنفرت الولايات المتحدة حلفاءها، عندما أدركت أن مصالحها العالمية أصبحت تحت رحمة “داعش” والتنظيمات الإرهابية الأخرى.  وهكذا تشكّل التحالف الأربعيني، الذي بدأت طائراته عملياتها العسكرية في كل من سوريا والعراق.  وهو تحالف لن يستطيع تجنّب القتال البري طويلاً.

إنها إذاً شبه حرب عالمية على حدود لبنان الهشة.  وهذا يدفعنا إلى التساؤل:  كيف تتورّط أوستراليا وكندا في الحرب السورية – العراقية، وهما في أقصى العالم، وكيف يمكن للبنان أن ينجو إذا كانت أقدام التطرف قد توغّلت في أراضيه، ويد النظام السوري المتشابكة مع أيادي إيران و”حزب الله” موجودة بشكل طبيعي داخل النسيج اللبناني وفي مؤسساته الرسمية كافة؟

لبنان سينجرّ إلى شبه الحرب العالمية هذه، شاء من شاء وأبى من أبى.  فهذه حرب أُعدت لتكون طويلة باعتراف من خطط لها وأعلنها.  وهذا يعني أنها إذا تأخرت اليوم فساعتها آتية لا ريب فيها، خصوصاً وأن ثمة من يستدعيها ويستعجلها.

يبقى السؤال الذي يقلق اللبنانيين:  هل ثمة أمل في تجنب الكارثة؟

من يستمع إلى تصريحات المسؤولين، يستطيع أن يطمئن إلى نجاة لبنان.  لكن من يرى الواقع، يدرك أن التورّط اللبناني بدأ منذ فترة طويلة، وأن براميل البارود المنتشرة في البقاع والشمال على أهبة الانفجار.

إن غياب فرص الحل السياسي لأحداث المنطقة، أدى إلى تصاعد العمليات العسكرية.  وإذا كانت هذه العمليات قد ألغت الحدود بين دولتين كبيرتين في المنطقة، أي سوريا والعراق، وذلك عبر إعلان “داعش” لـ”دولة الإسلام” من الموصل إلى الرقة، فإن الحدود اللبنانية لن تكون مصانة.  وهي قد تعرّضت، وستتعرّض إلى مزيد من محاولات التنظيمات الإرهابية المتطرفة لجعلها مكمّلة لساحة “جهادها” الذي تدّعيه.  وما يحصل على الحدود لن يبقى بعيداً عن باقي المناطق اللبنانية.

إذاً، ماذا ينتظر زعماء الطوائف والأحزاب والكتل النيابية للاتفاق على خطة تحمي لبنان من الوقوع في المحنة السورية؟

لا بد من اتفاق لبناني يتجرّع فيه كل الفرقاء سم التنازلات، قبل أن يفرض عليهم تجرّع سم الفتنة الكبرى … وعندئذ لن نبحث عن إقامة مخيمات للنازحين السوريين، لأننا سنكون مشغولين في البحث عن مخيمات للنازحين اللبنانيين.  ولكن متى وأين؟

الجواب عند القيادات المستهترة بالواقع المحلي والإقليمي والدولي.

لبنان الممزق: الجيش يخوض معركة سياسية بين “الممانعة” و”الامتناع”

كتب المحرر السياسي:

ملالة للجيش اللبنانيفي جرود عرسال

ملالة للجيش اللبنانيفي جرود عرسال

ليس الفراغ الرئاسي سبباً وحيداً لظاهرة انهيار الدولة في لبنان، فالأسباب المختلفة تتوالد بسرعة أفقدت، ما تبقى من مؤسسات، القدرة على المعالجة الجدية.

مجموعة من العقد والأزمات تتراكم فوقها عقد وأزمات جديدة. وعند التدقيق تتساوى جميعها باحتلال مرتبة الأولويات. فعقدة عرسال مثلاً، لا تقل أهمية عن أزمة الفراغ الدستوري. وأزمة الفراغ شديدة الارتباط بالأزمة السورية.

وأخطار داعش لم تلغِ خطر عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وعدم إقرارها نتجت عنه فضيحة إفادات الثانوية العامة.

وخطف الجنود وأفراد من قوى الأمن، لم يهز معنويات الجيش فقط، بل يهدد بالانسحاب على القضاء، عبر مساعي مبادلة المخطوفين بقيادات من المتطرفين المسجونين في سجن رومية. والإفراج عن المتطرفين لن يفرج عن الاستقرار الأمني المهدد، باعتراف الدولة نفسها، بخلايا داعش وأخواتها النائمة شكلاً والمستيقظة فعلاً.

وكل هذه العقد تتضاءل أمام عقدة العطش التي تهدد اللبنانيين، في دولة لا تعرف سياسة درء الأخطار قبل وقوعها، ولا بعد وقوعها.

ولا تغيب أزمة ألف مياوم في اختلاق أزمة التعتيم الكهربائي، الذي بات يكلف المواطن أكثر من نصف دخله ثمناً لتشغيل المولدات الكهربائية تحاشياً لتلف الأغذية، والغرق في بحر من العرق، بسبب الحر الشديد والرطوبة الأشد.

يضاف الى كل هذه الأزمات الأمنية والاجتماعية، الغلاء المتصاعد في أسعار السلع، وهو أمر لا يستطيع المواطن تحمله، ولا قدرة للدولة على مواجهته والحد منه.

المصالحات المستحيلة

الى جانب كل هذه العقد والأزمات المستعصية يعيش لبنان عقداً وأزمات سياسية أشد استعصاءً. فالمصالحات بين الفرقاء لم تزل محصورة بشكليات يقوم بها النائب وليد جنبلاط، وما زال المتصالحون معه، (حزب الله وعون وفرنجية)، يعتبرونها شكلية ولا يأخذونها على محمل الجد. أما المصالحات المجدية فهي تنتظر مصالحات إقليمية، من المؤكد أنها بعيدة المنال. فمصالحة «تيار المستقبل» و«حزب الله» تحتاج الى علاقات بين السعودية وإيران ما تزال عالقة في حرب حكومة اليمن مع الحوثيين، وفي الحراك الشيعي في البحرين، وفي الهيمنة الإيرانية على العراق، وفي التداخل والتدخل في الأزمة السورية الحادة والممتدة في المجهول.

وعندما تغيب هذه المصالحة، التي بمقدورها وحدها كسر حدة الخلافات السياسية والمذهبية في لبنان، تصبح الاستحقاقات الدستورية، ما مضى منها، أي انتخاب الرئيس، وما هو آت، أي الانتخابات النيابية، مجرَّد استمرار في تعطيل الدستور وضرب أسس الديمقراطية في بلد يدعي دائماً أنه الديمقراطي الأول في منطقة امتلأت بالديمقراطيات المشبوهة والمشوَّهة.

الجيش أولاً

في خضم هذه التراكمات غير القابلة للعلاج، يبرز موضوع الجيش كمؤسسة حية بين مؤسسات تحتضر، وتنتظر ما هو أكبر من الفوضى ليجري دفنها.

لا شك في أن اختطاف مجموعة من أفراد الجيش وقوى الأمن الداخلي، شكل عبئاً على معنويات الحارس الأخير للوطن. ويبدو أن هذه القضية تتجه الى التصعيد الأعمى وسط تسليم بمبادلة بين المخطوفين والمتطرفين، وبين رفض للمبادلة، وحتى لمبدأ التفاوض تحت ذريعة الحفاظ على هيبة الدولة… حتى ولو كان ذلك على حساب هيبة الجيش الذي حشر في زاوية الانقسام السياسي حول هذا الموضوع الشديد الحساسية. إذ أن توالي عملية ذبح المخطوفين العسكريين، لن تهتز بسببه هيبة الجيش بل ستهتز معها معنويات الجنود والضباط الذين وجدوا أن الدولة وقواها السياسية لم تفعل شيئاً لرفع سكين الجزار الداعشي من فوق رقاب رفاقهم.

وكذلك يقع الجيش مرة أخرى أمام القرار السياسي المنقسم على نفسه، فلا هو قادر على ترك عناصره للذبح البشع، ولا هو مسموح له الدخول في مغامرة عمليات عسكرية لإنقاذ رفاق السلاح، نظراً لما قد تحمله هذه العمليات من تطورات وتورطات في الأزمة السورية.

وهكذا تكون الدولة قد وضعت أهم مؤسساتها تحت خيار مقصلة الذبح الداعشي أو العجز الحكومي.

وسط هذه المخاطر لا يجد الجيش إلا طبقة من «المطربين» الذين يغنون له الأناشيد الحماسية، في حين أن طبقة السياسيين لا تنسى، وهي تدفعه الى المأزق الكبير، من الاشادة به وبقياداته، من دون أن تتوقف عن تشييد الأفخاخ المتفجرة في طريقه.

في ضوء هذا المأزق اللبناني الأكبر يبرز دور الرئيس سعد الحريري في توفير الدعمين المالي والتسليحي عبر مساعيه السعودية والروسية. لكن ماذا تفيد الإمكانات، إذا كان جيشنا المتمكن، معطل بالخلاف السياسي حول دوره، حيث منهم من يريده «ممانعاً»… ومنهم من يريده «ممتنعاً».

التكاذب الديمقراطي

المشكلة في أزماتنا المتراكمة والمعقدة، كثرة الوصفات الدوائية التي يقدمها السياسيون لشفاء لبنان منها. والمصيبة الفاضحة أن أصحاب هذه الوصفات هم أنفسهم من يمتنع عن تناول هذه الأدوية.

آخر دواء لفك الاستعصاء الرئيسي في البلاد، أي انتخاب الرئيس، كان في مبادرة 14 آذار، التي تقضي بالتخلي عن عون وجعجع، كمرشحين استفزازيين، وبالتالي البحث عن مرشحين آخرين ينتمون الى الاعتدال، أو الى ما يمكن وصفه بالمنحاز المعتدل، سواء كان الانحياز الى «8 آذار»، أو كان لـ«14 آذار».

لكن هذا الدواء سرعان ما سحب من الصيدليات السياسية بقرار من التيار الوطني الحر، وبذلك وجد اللبنانيون أنفسهم أمام معاناة يصح فيها القول: «فالج لا تعالج».

والخوف، كل الخوف، من أن تكون نهاية تراكم مثل هذا الكم من الأزمات، وقوع الانفجار الأكبر الذي يجعل اللبنانيين ينسون انتخاب الرئيس والنواب، وينسون كذلك المخطوفين وسلسلة الرتب والرواتب وانقطاع الكهرباء وشح الماء… ويكتفون فقط في البحث عن ملجأ آمن.

من الموصل إلى عرسال: لبنان على خريطة “داعش”

دبابة للجيش اللبناني في عرسال

دبابة للجيش اللبناني في عرسال

كتب المحرر السياسي

وحدها «الخلافات» السياسية مستقرة في لبنان، فلا هي تتجه نحو الحل، ولا هي تتجه الى التصعيد. أما باقي الأمور فإنها تتحرك سلباً نحو التفاقم والتعقيد. فلا الاقتصاد بمنأى عن الانهيار، ولا مالية الدولة قادرة على التوازن، ولا الشعار المذهبي يصب في التهدئة، ولا سعير النار السورية قابل للانحسار عن لبنان، ولا الأمن بمقدوره أن يسد ثغرات التفجير المتنقل بين المناطق.

وإذا كانت الخلافات السياسية مستقرة عند الخط الأحمر، حيث لا يجرؤ أحد على تجاوزه، تجنباً للانفجار الكبير، فإن ثمة تراجعات في المواقف السياسية برزت مع مفاجأة اقتحام تنظيمات التطرف الإسلامي بلدة عرسال وجرودها.

ولعل أبرز هذه المتغيرات تراجع وليد جنبلاط عن إدانة تدخل حزب الله في سوريا، ووصولاً الى دفاعه عن مشاركته في القتال الى جانب قوات المالكي في العراق.

ويرى المراقبون أن هذا التراجع ينذر بقلب التوازنات السياسية، وبالتالي، يهدد بدخول «الخلافات» مرحلة جديدة من الاهتزازات، حتى لو تجاوزت الخط الأحمر، الذي كان يبدو أن فرقاء الصراع قد التزموا الوقوف عنده.

فها هو وليد جنبلاط يحرك المياه الراكدة سياسياً، ويدفعها مجدداً إلى التلاطم؟ حيث يبدو أنه سيغادر موقعه «الوسطي» شيئاً فشيئاً، مقترباً من التحالف مع حزب الله… ومتقرباً من سوريا إذا ما توافرت في دمشق فرصة الصفح مرة أخرى.

وهو، وفق معلومات تنقلها مصادره، يقوم باستعادة العلاقات المقطوعة مع شخصيات من قدامى حزبه، والذين ما زالت تربطهم علاقات معقولة مع دمشق، في محاولة لمد الجسور مرة أخرى مع الرئيس السوري بشار الأسد، أو على الأقل، مع رجاله الأساسيين.

وهو من خلال حرصه على «العودة الرابعة» إلى دمشق، أزال الحاجز الرئيسي الذي بقي يعوق طريقه الى المصنع، فزار «الرابية» فجأة في مصالحة غير متوقعة مع الجنرال ميشال عون. وهذا حدث سياسي مهم قد يؤدي الى فتح الطريق البرتقالي الى بعبدا إذا ما تمت صفقة قلب الطاولة.

صحيح أن استدارة جنبلاط السياسية لم تكتمل بعد، إلا أنه مستمر باستكمالها، خصوصاً بعد أن قطع الآمال نهائياً ببناء علاقات الحد الأدنى مع السعودية، وبعد أن تبين له في آخر لقاء مع الرئيس سعد الدين الحريري في باريس، أن العلاقة الشخصية الجيدة، لم تنجح في الوصول الى اتفاقات سياسية في المسائل اللبنانية، وتحديداً في ما يتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية.

ومن الواضح أن أحداث عرسال وما كشفته من مخاطر مقبلة، قد أسهمت بدورها، في الدوران الجنبلاطي الجديد. فالقيادي «الدرزي» أحس بأن الهجمة الارهابية على عرسال، هي بداية لهجمات قد تخرج من ثقوب لبنانية في داخلها أعداد من الخلايا، التي يبدو أنها ستبدأ الاستيقاظ من نومها. وقد وصل به الاحساس بالمخاطر المحدقة بلبنان، الى حد التكهن بانقراض الدروز والمسيحيين!!

لا شك في أن المبالغة في التكهنات الجنبلاطية، هي مقصودة، وتصب في سياق تبرير النقلة الجنبلاطية الأخيرة.

وأحداث عرسال، لم تكن السبب الرئيسي في استدارة وليد جنبلاط، فزعيم المختارة سبقها الى لقاء السيد حسن نصر الله فاتحاً صفحات جديدة من المواقف الجديدة المبررة للتدخل العسكري في سوريا، حتى ولو ظهر التبرير مربكاً ولا يتصف بالحسم.

لقد فاجأت عرسال الجميع. لكنها مفاجأة جمعت اللبنانيين حول جيشهم. ودفعت بتيار المستقبل الى وضع نقاطه الوطنية على حروف الحالة السنية، التي لا ينكر بعض رجالاتها، على قلتهم، تعاطفهم مع هجمة داعش والنصرة على هذه البلدة اللبنانية النائية، التي قدمت الكثير للنازحين السوريين.

وأحداث عرسال، على خطورتها وبشاعتها، وكلفتها الدموية العالية، شكلت فرصة للرئيس سعد الحريري لتأكيد التزامه بالاسلام المعتدل، ولنفي، ما اتهم به من مساندة للإرهابيين والمتشدين السنة، بشكل حاسم ونهائي.

أما حزب الله فقد وجد في هذه الأحداث من يحمل عنه عبء مواجهة المتشددين مسلماً أمرهم للجيش اللبناني، ووقف بعيداً مراقباً للمشهد، مبعداً عن نفسه تداعيات التدخل المباشر في صراع يأخذ، بشكل ما، الطابع المذهبي.

يبقى السؤال:

هل يكفي انتصار الجيش في معركة عرسال، لاعتباره انتصاراً على تمدد الحرب السورية الى لبنان؟.

لا يبدو الأمر بهذه السهولة. فتراجع داعش والنصرة أمام ردع الجيش اللبناني وقوة نيرانه وشجاعة رجاله، لا يعني أبداً أن التنظيمين الإرهابيين قد تراجعا عن حرب الكر والفر. فمن الواضح أنهما اتخذا قرار التورط في لبنان، ومن ثم، توريط لبنان في مسار حربهما السورية.

وما يتعرض له لبنان، وما يقوم به الجيش اللبناني، لا يمكن مقارنته في أحداث نهر البارد الدموية. فتلك الأحداث كانت تجري داخل مربع جغرافي صغير تمت محاصرته بسهولة، وما كان المسيطرون على المخيم سوى قلة معزولة، ترتبط بها قلة قليلة من الأنصار في مخيم عين الحلوة. أما اليوم فالمعركة أكثر تعقيداً. فالقوى التي تواجه الجيش اللبناني يتمدد أنصارها في البقاع والشمال وفي بيروت وصيدا، حيث لا يمكن للأجهزة الأمنية اكتشاف نفوذ داعش والنصرة داخل مخيمات النازحين السوريين المنتشرة في طول لبنان وعرضه. يضاف الى هؤلاء قوى مسلحة لبنانية، لم تتردد في إعلان تأييدها للتنظيمين الإرهابيين في كل من طرابلس وعكار.

لا بد من أن تدرك القيادات اللبنانية ان الخطر لا يقف عند أبواب لبنان، فهو قد اقتحمها فعلاً. ولن نصل الى الانتصار عليه بالتغني بالجيش وإلقاء بيانات التأييد.

إن معركة قد تكون متداخلة في أغلب المناطق اللبنانية، تحتاج الى مؤسسات متكاملة وقوية. وهذا يستدعي من المعطلين لنصاب انتخاب الرئيس أن يتوقفوا عن الاستهتار بالفراغ. وهذا يستدعي أيضاً أن نكف عن استدعاء الأزمة السورية بالتورط فيها، وبفتح الحدود منها وإليها.