كتب عبد الرحمن سلام:
قناة “أل بي سي” كانت السباقة في طرح خطة انقاذ الاعلام المرئي
“صناعة الإعلام اللبناني في خطر”. هذا ما قاله أحد مدراء المحطات التلفزيونية اللبنانية، محذّرا من موجة الجفاف الإعلاني والشح المالي التي تضرب الاعلام المرئي في لبنان منذ فترة.
النزيف كبير، والمنافسة أكبر. فـ”خريف” الإعلام اللبناني الذي أصاب الصحف والمجلات قبل سنوات، ها هو اليوم يدخل ستوديوات الانتاج ويعيد تسليط الأضواء على الأزمات التي تعيشها التلفزيونات اللبنانية خلف الكاميرا.
وفق الأرقام المعلنة، بلغت خسائر القطاع التلفزيوني 60 مليون دولار سنوياً. وهي خسائر ناتجة عن تقلّص السوق الاعلانية، والمضاربات في الأسعار التي تخفّض تسعيرات الدقائق وتحد من المداخيل.
ولأن الانتاج اللبناني هو من مسؤولية القنوات اللبنانية فقط، دون غيرها من القنوات العربية (المصرية والخليجية) المحصّنة في مدنها الإعلامية في القاهرة ودبي، فبالتالي كان لا بد من دق ناقوس الخطر، حيث بادر القيّمون على التلفزيونات بوضع خطط إنقاذية، لا تزال تحظى بالدعم الرسمي “الشفهي”، لتخطي العقبات ومواجهة التحديات التي تهدد صناعة الاعلام اللبناني بالموت.
لكن قبل الدخول في تفصيلات الخطط الانقاذية، لا بد أولاً من التوقف عند الخلفيات والأسباب الحقيقية لتقهقر الواقع الإعلامي في لبنان. فمع احتدام الانقسامات اللبنانية بأبعادها الاقليمية والدولية، فرض المال السياسي أجنداته على الإعلام، وخصوصاً القنوات التلفزيونية، التي تحوّلت إلى سلاح تحريضي في المعارك السياسية والحملات الانتخابية.
وبات لكل شاشة مشاهديها ومعلنيها … ومموليها – وربما لونها الطائفي الخاص بها. وبمتابعة بسيطة لمقدمات نشرات الأخبار، تتكشف الانتماءات السياسية لكل محطة، التي تضرب بعرض الشاشة أسس الموضوعية والمصداقية.
هذا الارتهان للمال السياسي حوّل الاعلام المرئي إلى سلاح في يد المتصارعين على السلطة، ولم تعد القواعد التجارية هي المتحكمة باللعبة التلفزيونية. ومع تراجع تدفق المال السياسي لأسباب تتعلّق بالأزمات الاقتصادية من جهة، واستنزاف الممولين من حكومات وسياسيين في تداعيات “الربيع العربي” من جهة أخرى، بدأت الثغرات تظهر في ميزانيات المؤسسات الإعلامية اللبنانية، التي لجأت في بادئ الأمر إلى الحلول الأسهل إدارياً والأصعب إنسانياً، والمتمثلة في الصرف الجماعي للموظفين لترشيد النفقات وتخفيف الأعباء.
لكن يبدو أن هذه الحلول “البدائية” انعكست على نوعية الانتاج، ولم تكن كافية لسد النزيف المالي، أمام تقدم المنافسة من الاعلام المصري والخليجي المتسلح بإمكانات مادية ضخمة ودعم حكومي مطلق.
هذه المعاناة، دفعت بمسؤولي القنوات التلفزيونية اللبنانية إلى مغادرة متاريسهم الإعلامية، والتحرك في اتجاهات أكثر فعالية لإنقاذ مستقبل محطاتهم من الإفلاس.
وتركز الخطة الانقاذية المقترحة من رئيس مجلس ادارة “المؤسسة اللبنانية للإرسال انترناشيونال” بيار الضاهر، على العديد من النقاط التي من شأنها مساعدة القنوات الثماني على تقليص الخسائر المالية الكبيرة التي تتكبدها سنوياً.
أولاً، الطلب من الحكومة تخفيض الرسوم المفروضة على التلفزيونات اللبنانية، أسوةً بالمكاتب التمثيلية للقنوات العربية في لبنان، والتي تنتج وتصوّر معظم برامجها على أراضيه.
ثانياً، فرض بدل مادي على حقوق البث، سواء على المتلقي أو على أصحاب الكابلات، كما هي الحال مع محطات أو باقات أخرى، مثل شبكة “أو أس أن” وغيرها. في هذا الشأن، يدرس القيمون فرض بدل اشتراك على الكابلات بمعدل أربعة دولارات شهرياً عن كل اشتراك، أي نصف دولار لكل محطة في الشهر، في سوق يبلغ إجمالي مشتركيه حوالى 800 ألف مشترك، أي ما يعادل الـ400 ألف دولار شهرياً ستضاف إلى رصيد كل تلفزيون شهرياً.
ثالثاً، تحسين سرعة خدمة الانترنت، ما يتيح للقنوات الإفادة من الإعلانات الرقمية، كمصدر دخل إضافي، إلى جانب التفكير بفرض رسوم على المشاهدة الالكترونية على غرار المواقع الإخباريّة والترفيهيّة الأجنبيّة.
رابعاً، طلب إلغاء الرسوم عن سيّارت البثّ المباشر، وإنشاء “غرفة انتاج اخباري” موحدة، تعنى بكل ما يتعلق بـ”البث المباشر” المخصص بغالبيته للنشرة الاخبارية، بحيث تتمكن المحطات من الحصول على الصور والمشاهد “الموحدة”، بدلاً من أن تتكبد (منفردة) تكلفة وعناء ارسال فريق عمل. وبمفهوم اكثر وضوحاً، ان تشكل هذه الغرفة المقترحة انشاء “وكالة أنباء محلية” تتولى توزيع المعلومة والصورة (ذاتها) على مختلف المحطات.
خامساً، وهي النقطة الابرز المقترحة في “خطة الانقاذ”، تحديد أسعار الاعلانات، حيث لا تتغير أو تتبدل، بهدف الحد من بازار تحطيم الاسعار ووقف المضاربات الشديدة بين المحطات.
برأي أكثر من مصدر مطلّع على مجريات المشاورات الدائرة خلف الكواليس، فإن نقاط الاختلاف والخلاف لا تزال أكبر وأكثر من نقاط التفاهم والالتقاء. فهناك العديد من المواضيع لا تزال قيد المناقشات “المتشددة”، بعضها جوهري، وبعضها مبدئي، لكنها، في الحالتين، اساسية وفي العمق، لا سيما منها نقطة “توحيد الانتاج” لأنها تعني الحد من التميز والابداع، من جهة، وتفرض في المقابل، تبادل النجاحات وبثها على مختلف الشاشات، من جهة ثانية.
وترى المصادر أن الفائدة من “توحيد الانتاج” ستكون متفاوة بين شاشة وأخرى. فالـ”ال بي سي” على سبيل المثال، ستستغل هذه النقطة لحصر انتاجها الخاص ضمن برامج معدودة ومحددة، كأن تتوجه الى الانتاج الدرامي (المسلسلات) التي تستحوذ على نسبة كبيرة من المشاهدة. في المقابل، تعمل محطة “أم تي في” (ودائماً على سبيل المثال) على انتاج البرامج الترفيهية والفنية ذات الانتاج الضخم المعتمد على الابهار، ثم تتشارك المحطتان في عرض الانتاجين. هذا المثال، يسري كذلك على باقي المحطات، بحيث يصبح امام المعلن “عيّنة” من الانتاجات ذات المواصفات الجيدة والمحلية، ما يتيح للقنوات التحكم بأسعار المادة الاعلانية، ومضاعفتها ـ إن ارادت ـ على أن توزع العائدات على المحطات، كل بنسبة تتوازى مع تكلفة الانتاج.
طموح “مشروع”، لكنه غير قابل للتطبيق ان لم نقل يستحيل تحقيقه.
بدليل، أن أبسط “النقاط” لسد ابسط الثغرات المالية من خسائر المحطات اللبنانية اصطدمت بالعقبات والحواجز، عندما طرحت المحطات المذكورة موضوع تنظيم العلاقة بينها وبين شركات “الكابل” لبحث موضوع انتقال الشاشات اللبنانية من ضفة “البث المجاني” الى ضفة “البث المدفوع”، من خلال اقتطاع بدل مالي من اصحاب “الكابلات” (بمعدل 6 آلاف ليرة لبنانية على كل مشترك)، اسوة بما يدفعه اصحاب الكابلات لشركات تلفزيونية أخرى، حيث اشترط اصحاب المحطات اللبنانية عدم تحميل المواطن اللبناني اي تكلفة اضافية.
إلا أن المعركة مع اصحاب “الكابلات” ستكون صعبة، إذ يعتبر هؤلاء أن أصحاب المحطات عمدوا الى “تهديدهم”، معتمدين على مرجعياتهم السياسية. في المقابل، يرى مسؤولون في محطات التلفزة اللبنانية، أن “موزعي الكابل” يحققون ارباحاً خيالية، وبشكل غير مشروع اساساً، ويخالف كل القوانين اللبنانية، وبالتالي، من المفروض أن يتنازلوا عن جزء من ارباحهم، لايصال بث الشاشات اللبنانية المحلية الى اللبنانيين، وأنه من الطبيعي أن يدفعوا الى المحطات اللبنانية، كما يدفعوا الى غيرها، لبث “باقاتها البرامجية”، حيث تتقاضى “أو أس أن” 1300 ليرة لبنانية من اصحاب الكابلات عن كل مشترك، ما يعني “التلميح” الى وجود تنسيق ضمني مع ممثليها في لبنان، لزيادة التعرفة على موزعي الكابل فور فرض التلفزيونات المحلية للتعرفة على هؤلاء الموزعين.
صحيح أن “مصيبة” الخسائر المالية قد جمعت مختلف اطراف قطاع الاعلام المرئي في لبنان، ولكن، ورغم “الشح” في موارد مختلف الشاشات اللبنانية، يتبقى من الأمور ما هو متقدم على الآخر. فهل تكون خطوات هؤلاء الأقطاب “الانقاذية” ـ إذا جازت التسمية ـ خشبة الخلاص للاعلام المرئي مجتمعاً، أم أن في الأمر، وكما يتوقع المراقبون، “قطبة” ذكية هدفها “استثمار” الضعفاء لنجاحات “الأقوياء”؟ أو “ابتلاع” القروش الكبيرة للأسماك الصغيرة.
ما هو ظاهر، حتى اللحظة، وفي ظل معطيات الانكماش الكبير الذي أصاب الاقتصاد العربي بشكل عام، جراء ترددات ما عرف بـ”الربيع العربي” على الواقع اللبناني، هو ان القطاع الاعلامي المرئي (ومعه المكتوب) سيستمر لفترة طويلة من دون أي انفراجات مالية تذكر، ما يعني امكانية استنزاف قسم كبير من هذا القطاع للكثير من فعاليته وقواه البشرية والتقنية، مع امكانية أن تعلن المحطات، الواحدة تلو الأخرى، رفع الراية البيضاء، وبذلك، ربما تخلو الساحة أمام “أحادية” أو “ثنائية” أو ربما “ثلاثية” ـ في أحسن الأحوال ـ تلفزيونية اما سياسية او تجارية احتكارية او الاثنين معاً، وذلك لن يتم إلا عبر “الدمج” أو “التعويم” أو… الاقفال.
في كتاب “أسطورة الحياد: استقلالية الاعلام اللبناني” لآمنة المير، تتوصل المؤلفة الى خلاصة أن “المؤسسات الاعلامية في لبنان، تكون في الغالب، إما منبراً لمالكها، أو معبرة عن توجهات جهة التمويل، وان هناك ضعفاً في التزام المؤسسات الاعلامية بالموضوعية والشفافية والأمانة، في ظل عدم توافر الاستقلالية المالية والسياسية. كما ان الاعلام اللبناني يلعب دوراً مهماً في التأثير في الرأي العام، وان هناك وجوداً للآثار السلبية الكبيرة في مهنة الاعلام، في ظل التبعية السياسية والمالية”.
في ظل هذه الخلاصة، تطرح التساؤلات التالية نفسها: الى أين يتجه الاعلام المرئي في لبنان؟ وهل “خطط الانقاذ” سيكون لها فعلاً دورها الانقاذي، أم أنها مجرد “حبة اسبرين” تحاول علاج داء سقيم؟