إستوى العهد القوي على العرش.
هلل الحلفاء والأتباع والمنجمون.
ملأت البشائر جهات لبنان الأربع.
سمع “المواطن” ما يشاع ويذاع ويكتب.
توجه متلهفاً إلى “مطار العهد” ليختار رحلته الأولى في بلاد العز.
وقف، متباهياً فخوراً بلبنانيته، أمام لوحة الرحلات المغادرة.
قرأ.
لم يصدق.
طائرة الإستقرار… ألغيت.
طائرة البلوك 4… ألغيت.
طائرة الإصلاح والتغيير… ألغيت.
طائرة السيادة والنأي بالنفس… ألغيت.
طائرة التشكيلات القضائية… غادرت إلى مطار أهل الكهف.
أصيب “المواطن” بالخيبة والذهول.
جلس حزيناً على أقرب مقعد صادفه.
وضع يده على خده مكتئباً متسائلاً:
إلى أين أذهب… وكل رحلات البشائر قد ألغيت؟.
أدرك أن لا فائدة في الإنتظار.
نهض متثاقلاً مقرراً الرجوع إلى بيته الآيل للسقوط.
وعد نفسه بالعودة إلى المطار ذات يوم. فربما بعد “ثلاث سنوات” يأتي عهد تصدق فيه البشائر، وتتقيد فيه الطائرات بوجهتها ومواعيدها.
وفيما كان يهم بمغادرة صالة المسافرين، طرأت عليه فكرة المرور على صالة الوصول.
قد يجد في الطائرات الواصلة ما يزيل الهم والغم.
لم تكن المسافة بعيدة بين الصالتين.
مجرد سلم… نزله، ومشى بضعة خطوات، فوجد نفسه أمام لوحة الوصول.
قرأ.
أيضاً لم يصدق.
طائرة الإفلاس… هبطت منذ قليل.
طائرة الإنهيار… تهبط الآن.
طائرة الجوع… تهبط بعد قليل.
لم يكمل “المواطن” قراءة اللوحة.
غادر المطار مسرعاً ثائراً.
تراجع عن قرار العودة إلى البيت.
نزل إلى الشارع.
نصب خيمته.
رفع قبضته.
صرخ صرخته.
لم يره ويسمعه من رجال الدولة، سوى رجال الأمن.
هوت على رأسه الهراوات.
أدمت جسده ركلات الأحذية العسكرية الثقيلة.
هرب لاجئاً إلى خيمته.
مجدداً وضع يده على خده، ضارباً أخماسه بأسداسه.
ما العمل… وإلى من يشتكي؟.
تذكّر أن “محللاً استراتيجياً” قال ذات مرة، في مقابلة تلفزيونية، أن في قصر بعبدا يقيم أب حنون.
تغلب على تعبه وآلامه، ومضى إلى هناك.
قبل أن يبلغ عتبات القصر، منعه الحراس من متابعة طريقه.
سألهم ببراءة:
أليس ذلك المبنى الجميل، فوق تلك الهضبة الخضراء الفاتنة، هو قصر الشعب؟!
أجابوه:
نعم. لكنك لست من الشعب. الشعب يرتدي قميصاً برتقالياً. ويضع على رأسه قبعة برتقالية. ويرفع الإبهام والسبابة تأكيداً على حبه للوطن.
سالهم بسذاجة:
إذاً، من أنا؟.
أجابوه إجابة لا تقبل التشكيك:
أنت إما مندس… أو مخرب.
عاد صاغراً إلى خيمته.
منع نفسه من البكاء.
الرجال لا يبكون… هذا ما قاله الآباء والأجداد.
فجأة سمع دوي إنفجارات.
وفجأة سالت الدموع من عينيه.
ماذا حصل؟
إنها القنابل المسيلة للدموع… فالحكومة تعرف كيف تُبكي من لا يبكي من شعبها.
مسح دموعه القسرية.
تساءل وهو في قمة الغضب:
أين نوابنا… وأين ما وعدوا؟.
لم ينتظر الجواب.
أسرع إلى ساحة النجمة.
حاول صعود الدرجات القليلة، التي تفصله عن بوابة مجلس النواب.
خرج عليه الحراس من كل حدب وصوب.
لم يكتفوا بمنعه… بل أمعنوا في ضربه.
كانوا يشبهون حراس بعبدا في كل شيء، إلا بلكنتهم الجنوبية.
لم يخف… لم يستسلم… صرخ بوجههم:
أريد التحدث إلى نوابنا.
بتهكم رد أحد الحراس:
تتحدث إليهم في الإنتخابات المقبلة. فآذانهم لا تُفتح للعامة، إلا عندما تُفتح الصناديق للإقتراع.
إنها خيبة أخرى… وعودة مرة أخرى إلى الخيمة… ومرة أخرى أيضاً يضع يده على خده وقد أنهكه التوتر والقلق.
لكن، وكما سقطت التفاحة على رأس “نيوتن” صرخ المواطن:
وجدتها… وجدتها.
سأذهب إلى السرايا.
هناك مقر حكومة القرار والأمر والنهي.
توجه إلى ساحة رياض الصلح.
إنكفأ صعوداً إلى المبنى التراثي، الذي جدده رفيق الحريري وأعاده إلى الحياة من جديد.
تسلل إلى الباب الخشبي الكبير.
قرعه واثقاً من أنه أخيراً وصل إلى من بيده الحل والربط.
خرج من خلف الباب شاب فليبيني أنيق.
استغرب “المواطن” وجود أجنبي في مكان بمستوى رئاسة الحكومة.
ورغم أنه يعرف المكان جيداً، سأل الفليبيني الواقف أمامه:
أليست هذه هي السرايا؟.
ردّ الرجل بلغة اختلط فيها العربي بالإنكليزي:
نو سير… هيدا بيت مستر بريزيدانت حسان دياب.
هنا تحولت الخيبة إلى صدمة.
أقفل راجعاً إلى خيمته في ساحة الشهداء.
حدّق في التماثيل العارية الصامدة.
كاد يترحم على جمال باشا السفاح… فحتى بين السفاحين هناك من هو أرحم من الآخر.
كاد… لكنه لم يفعل.
وليد الحسيني