سميح القاسم: سلاح القصيدة بين الكبد والمكابدة

كتبت غادة علي كلش:

نبدأ من هنا. من كبد سميح القاسم الذي كابد في كبره  المرض الخبيث، فهزمه الموت عن عمر ناهز 75 عامًا. ونرجع إلى الوراء إلى شعر سميح القاسم  الذي كابد منذ شبابه احتلال العدو الصهيوني لبلده فلسطين، ليسطّر  وجها صارخا في ترسيخ معاني الحياة، أي، كيف يكون الجسد مطيّة، وكيف تكون الكلمة سلاح الهوية.

سميح القاسم أحد أهمّ وأشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبطت إسماؤهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل الأراضي المحتلة في العام 1948. كان مؤسس صحيفة “كلّ العرب”، وعضوا سابقا في الحزب الشيوعي. ولد في مدينة الزرقاء يوم 11  أيار (مايو) 1939، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس،ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي.

تنوعت أعمال القاسم بين الشعر والنثر والمسرحيات، وبلغت أكثر من سبعين عملا. كما اشتهر بمراسلاته مع الشاعر محمود درويش الذي ترك البلاد في السبعينيات. هذه المراسلات عُرفت بـ”كتابات شطري البرتقالة”. ووصِفت بأنها “كانت حالة أدبية نادرة وخصوصا بين شاعرين كبيرين قلّما نجدها في التاريخ”. صدر له أكثر من ستين كتابا في الشعر والقصة والمسرح والترجمة، وصدرت أعماله في سبع مجلدات، كما ترجم له عدد كبير من أعماله وقصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية ولغات أخرى.

كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، وكان من بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.

سُجن سميح القاسم أكثر من مرة كما وُضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي، وطُرد من عمله عدة مرات بسبب نشاطه الشعري والسياسي، وواجهَ أكثر من تهديد بالقتل. وفرضت عليه الإقامة الجبرية من قوات الاحتلال بسبب مواقفه الوطنية والقومية. واعتقل عدة مرات، وتفرّغ تمامًا للأدب المقاوم بعد تركه الحزب الشيوعي.

حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات. فنالَ جائزة: “غار الشعر” من إسبانيا. ونال جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي. كما نال جائزة “البابطين”، و”وسام القدس للثقافة” من الرئيس ياسر عرفات، وجائزة” نجيب محفوظ” من مصر، و”جائزة الشعر الفلسطينية”، و”جائزة السلام” من واحة السلام.

سميح القاسم، إحتفلت به الألقاب في حياته، واستحضرتها الأوراق في مماته. فهو على ألسنة كبار الكتّاب والمثقفيّن العرب: “شاعر المقاومة الفلسطينية” “شاعر القومية العربية” “الشاعر العملاق” “شاعر الغضب “شاعر المواقف” الثوري “شاعرالملاحم” الدرامية “شاعر الصراع”، “مارد سُجنَ في قمقم”، وشاعر “البناء الأوركسترالي للقصيدة”.

 نستحضر هنا بعض أبياته من بعض قصائده التي يُردّدها الشعب الفلسطيني ومحبّو الشاعر الراحل:

تعبت من الحياة بلا حياة

وتعبت من صمتي

ومن صوتي

تعبت من الرواية والرواةِ

ومن الجناية والجناة

ومن المحاكم والقضاة

وسئمت تكليس القبور

وسئمت تبذير الجياع

على الأضاحي والنذور

وأيضاً من أبياته نذكر:

روت الأرض عن الأرض عن الأرض فقالت:

الرحى تطحن قمحي وظلالي

والرحى تصقل أحزان رجالي

وأنا منتظرة

وأنا أشهد حزن الياسمينة

وعذاب القنطرة

ريثما ترجع من منفى التواريخ الهجينة

قبلة ممهولة بالدمع في بعض الليالي المقمرة

جوزيف حرب: رائد الرهافة في القلميْن

الشاعر الراحل جوزيف حرب

الشاعر الراحل جوزيف حرب

كتبت غادة علي كلش:

لا يمكن حصر شهرة الشاعر جوزيف حرب بالأغنيات التي غنتها له رنين لبنان، المطربة فيروز. فقلم جوزيف الغنائي الإنسيابي الحاني، هو رديف قلمه الآخر العروبي والوطني والطبيعي والغزلي، في الوقت عينه. بل هو الرديف الأكثر إشعاعا وترويجا، من خلال دواوينه التي كرسته شاعرا كبيرا من شعراء لبنان المعاصرين. فلشاعرنا أرشيف واسع يغتني بالقصائد المشغولة بظلال الحوافي،وبأضوائها الريفية. المصقولة برقة المفردة وحنوّها. المرصودة بترددات الأحاسيس وشجْوها.لقد كانت القصيدة في أصابع جوزيف، كعناقيد العنب، وأكواز التين، وتراب الأرض العربية و تجذرالتاريخ.

اشتهر جوزيف حرب بدربة شعرية خاصة بفؤاده. وبدربة مبادئية خاصة بفكره. فنهر العروبة دفّاق في شعره، باتجاه التراث منبعا، والحضارة مصبّا. كذلك كانت ينابيع الغزل والحب تتدفق في مجرى أبياته ناشدة الوصول الى موعد الجمال في أماكن الخيال.

ويمكن القول إن الشاعر حرب أعطى القصيدة الغنائية نكهة لبنانية رائعة، خصوصا بعد أن ترددت قصائده على لسان فيروز، نذكر منها “لبيروت” ” حبيتك تنسيت النوم” ” اسامينا” ” إسوارة العروس” زعلي طوّل انا واياك” ” ورقو الأصفر شهر أيلول”. كما غنى له مارسيل خليفة قصيدة” غني قليلا يا عصافير” و” انهض وناضل”.

وللشاعر حرب بصمة مهمة في العمل الإعلامي والثقافي، وذلك عبر عمله في الإذاعة اللبنانية، وكتابته البرامج الأدبية. كذلك عبر كتابته مسلسلات  أنتجتها محطات تلفزة عربية، وكانت بمضمونها ذات بعد تاريخي ووطني ، منها” العرب” ” قريش” ” اواخر الأيام” و” رماد وملح”.

ترأس ” اتحاد الكتاب اللبنانيين” من العام 1998 حتى العام 2000، تاركا اياه يائسا من تخبطه في دوامة التقهقر عينها المستمرة حتى راهنية  هذه اللحظة.

دواوين جوزيف لا تزال تلقى رواجا كبيرا على الصعيد الشعبي والنخبوي. فله” شجرة الأكاسيا” و” مملكة الخبز والورد” و” الخصر والمزمار”” والسيدة البيضاء في شهوتها الكحلية”

رحل جوزيف حرب مرددا بفؤاده:

عشت،

وعرفت.

حزنت،

وفرحت،

وكبرت.

وهلق يا هالدفّي،

انغمسي بموج الليل.

بيكفّي.

زهقت من هالكون،

زهقت من هالكلّ،

وطالع ع بالي فِلّ.”

أنسي الحاج: الشاعر الذي أعلن الحداثة

كتبت غادة علي كلش:

لم يقترن اسم الشاعر أنسي الحاج بالشعر التمردي، وبالشعر الوجودي، أو الغزلي فحسب. بل اقترن اسمه أيضا في انتهاج قصيدة النثر، إقتران الصيت بالإستهلال الحر للقصيدة العربية الموزونة، عبر تدوير لحداثة الغرب. بحيث أن هذا التدوير، لم يكن تقليدا أو محاكاة عادية  للحداثة الغربية، بقدرما كان استقلالا وتمردا خاصا  بأنسي،على مختلف المفاهيم و المقاييس والبنى الشعرية في عالم الشعر.

ولا تزال الساحة الثقافية في لبنان،منذ أواخر الخمسينيات، تستند الى تجربة أنسي في مجلة شعر التي أسسها مع الشاعرين المخضرمين يوسف الخال، وأدونيس.وكم كان لهذه المجلة دور في الإطاحة بقصيدة التفعيلة، وفي افتتاح عصر جديد للشعر الحديث.

أكمل أنسي الحاج مسيرته بعد توقف المجلة الشهيرة.وتابع تمرده عبر دواوينه التي كرست الصوت الشعري المنفلت من إيقاع القصيدة الكلاسيكية، ومن وقع المفردات المتآلفة، ومن مواقع الخيالات المألوفة. فأتى ديوانه الأول” لن” ليشكل بوابة الدخول الى قصر العزلة عن كل ما اعتبره شعراً رتيب الشكل، متكرر المعنى متشابه الصورة. مستحدثا فيه اطلاقات شكلية وكمونية لقصيدة النثر، تسع أفكاره الصارخة الرافضة. حيث كان  ذلك الشاعر” الرافضيّ”-ان صح وصفي له- حيث استمر في قصره المنعزل ينشد حواراته الفكرية بالشعر، دون أن يعني ذلك موافقتنا على طبيعة حواراته، خصوصا تلك التي تتعلق بجوهر الإيمان.

ولأنسي الحاج مسار آخر في الساحة الثقافية اللبنانية، وخصوصا الصحفية منها. حيث كرسته الساحة رجل صحافة من طراز رفيع، إذ كان رائدا في تعزيز الصفحات الأدبية، وخصوصا صفحة جريدة النهار” وقد أنشأ الملحق الثقافي الخاص بها،ناقلا بذلك دور الصحافة الأدبية من الخبر إلى النقد،ومن التغطية، الى الحوار، ومن الإضاءات المحلية، الى الإضاءات العالمية. مما أفسح المجال لبروز أسماء نقاد وشعراء وكتاب، عملوا على الإرتقاء بالصفحات الثقافية في الصحف والمجلات اللبنانية كافة.

إلى ذلك.تميزت مسيرة أنسي الحاج، بأعمال الترجمة المهمة على صعيد المسرح. إذ كان مترجما مهما لمسرحيات شكسبير،وايوجين يونيسكو،وألبير كامو،وبريخت. وقد اشتهر بترجمة كتاب أدولف هتلر” كفاحي”.

أنسي الحاج1937-2014 مسيرة عمر تخللها دواوين عدة منها ” الرأس المقطوع” ” ماضي الأيام الآتية”  “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” و” خواتم”” والوليمة”. رحل في شهر شباط/فبراير/ تاركا ذكراه على عتبة الربيع.

هدى عيد: الجريمة هاجسي الروائي

غادة علي كلش:

تُنقِبّ الروائية هدى عيد في رواياتها دوماً، عن المظاهر الفاسدة  الكامنة في طبقات المجتمع اللبناني، المتوسطة منها، وتلك البرجوازية الجديدة. وترصد من خلال هذه الروايات، خطوط العلائق الخفية التي تربط بين السياسي والمالي والاجتماعي من جهة، وبين الجنوح النفسي والفكري والأخلاقي، للأفراد الذين يشكلون دور البطولة في بيئات متهاوية ومتصدعة، من جهة ثانية.

هنا حوار مع هدى

هدى عيد

هدى عيد

عيد عن روايتها الجديدة “حب في زمن الغفلة” الصادرة عن “دار الفاربي” في بيروت، نضيء فيه على هواجسها التي تستتبع بها فن الرويّ وتقنياته وتحديثاته، على خط استتباع نبض المجتمع المتفجر:

■ تنحو روايتك الجديدة “حب في زمن الغفلة” منحى مختلفا عن رواياتك السابقة، من حيث اختراق البيئة المتوسطة الدخل تحديدا، من دون الابتعاد عن البيئة الثرية المرتبطة بأدوات السلطة. هل تعتقدين ان العلائق المتقاطعة بين بيئتين مختلفتين، هي التي تسبب نتائج  كارثية؟

– النتائج الكارثية لا تتأتى، طبعا، من هاتين البيئتين، واحدة متوسطة، والاخرى ثرية، اذا كان النمو في الطبقة الثرية نموا طبيعيا، وإذا كانت عملية الانتقال من هذه الطبقة المتوسطة الى الطبقة الثرية، قد تمت بشكل تدريجي طبيعي. لكن، ما يحصل في مجتمعاتنا هو قفزات مهولة أحيانا، تنقل الفرد من حالة متوسطية في العيش، او من حالة متدنية، الى ان يصبح برجوازيا منظورا في المجتمع. فيحاول قدر الامكان، الحفاظ على بعض العلاقات مع الطبقة المتوسطة، او يعمد احيانا الى مقاطعتها بنوع من الجفاء، والتعالي الذي يعكس  جملة من العقد النفسية. هنا تبدو العلاقات بين هاتين الطبقتين علاقات غير مستوية الى حد كبير. لأن التطور لا يكون ملحوظا على الصعيد الانساني بشكل كاف. ولا يلحظ النمو النفسي والعقلي والفكري بشكل متكافئ. لذلك نجد ان الصراع، يبدو قائما في هذه العلائق، اكثر مما يبدو الانسجام حاصلا. انطلاقا من هذه الرؤية احاول في روايتي هذه، تسليط الضوء على هذه المسألة الملحوظة في مجتمعنا. إذ ثمة فجوة تقوم في مجتمعاتنا بين هاتين الطبقتين. فالطبقة  البرجوازية الجديدة، تحاول ان تركل بقدمها كل ما كان لديها من قيم، وتحاول ان تدوس عليها، فيما الطبقة المتوسطة تبدو في عدم  تقبل، أو عدم استيعاب لهذه المنظومة الجديدة. لذلك يقوم نوع من الصراع متجليا بطريقة او بأخرى، عبر بطلة الرواية ليلى بدران، التي تنتقد ما حصل مع اختها وصهرها، وهما النموذجان الفعليان لهذا الصراع في هذا العمل الروائي.

■ يتشكل البعد الرمزي والجسدي للحب في روايتك، ضمن ثلاثية العذاب والطلاق والغرام. هل ترين ان الاعراف الشرقية تغيرت كثيرا، مع تغير اشكال الممارسة الاجتماعية العامة في لبنان، ومع تحديث العادات وانقلاب الاجيال الشابة على التقليد؟

– الزواج مؤسسة اجتماعية مهمة. ولا شك في ان تغيرات عدة قد طرأت بسرعة على المجتمع اللبناني، وعلى سائر المجتمعات العربية. ولكن، اعتقد، أن المجتمع اللبناني، كان الاسرع في تقبل هذه التغيرات وفي اعتناقها. والتي انعكست بسرعة هائلة على مؤسسة الزواج. وما نلحظه في مجتمعاتنا اليوم هو كثرة حالات الطلاق. وبالتالي، فإن البعد الهائل ما بين طرفي هذه المؤسسة، جعلهما بسبب هذه التغيرات، غير قادرين على التفاهم. اذ شكل كل واحد منهما عنصرا قابلا لتغيرات المجتمع المتسارعة، وغير المدروسة وغير المنتظمة الوقع. وقد اوصلهما هذا الواقع  الى حالة صدامية نوعا ما. من هنا فإن الصورة العامة لمجتمعنا اليوم، قد لا تبدو قائمة على اسس صحيحة، بشأن كثرة عنصر الطلاق. إلا أن  بعض هذه الحالات الانفصالية في مؤسسة الزواج، هي منطقية ومبررة، تستند الى جملة من الاسباب الواقعية التي تجعل الانثى تفكر في استقلالها مجددا، لاثبات ذاتيتها. ليلى بدران في هذه الرواية، كانت تمثل الى حد كبير، حالة المرأة المطلقة التي تواجه المجتمع الرافض، الذي لا يزال بدوره، يقسو على المرأة العانس، والمرأة المطلقة، فيحاول ان يجرها للعودة الى زوجها، حيث كان يمثل هذا الاخير انموذجا منفرا لتداعي القيم من حولها.

■ شخصية صالح (زوج ليلى بدران) شكلت في روايتك هذه، مفاجأة للقارئ. فهو الرجل الذي نجح في تغيير شخصيته كليا من السيء الى الاحسن، من أجل استعادة زوجته. هل (صالح) هو رمز وهمي ام حقيقي؟

– أُثمِن ملاحظتك هذه غادة أنا لا أرى شخصية صالح متخيلة وبعيدة من الواقع، انا اجد ان الرجل اللبناني مظلوم الى حد ما، من التغيرات التي وقعت في مجتمعه. لا ينبغي ان نضع كل المسؤولية على عاتق الرجل. ثمة مجتمع مجحف يتعرض للانسان عندنا، سواء كان رجلا ام امرأة. وثمة ظروف اقليمية وسياسية واجتماعية يتعرض لها الانسان فينا. لذلك من يعاني ليس فقط المرأة، فالرجل ايضا يعاني من تغيرات مجتمعه. وفي روايتي هذه، كنت اعوّل على شخصية صالح وتغيرها من الاسوأ الى الاحسن. فالرجل هو عنصر ايجابي وسيبقى ايجابيا، اذا ما لاحظ هذه التغيرات، وأعاد استيعاب القيم، وبناء نفسه من جديد.

■ روايتك تعكس لنا واقع الاغتراب الجديد للشباب، واختلاف نوع الغربة معهم عن غربة الآباء والاجداد.  الى اي مدى شكلت التكنولوجيا، همزة وصل جديدة، ضمن ادبيات الغربة؟

– الوطن اللبناني هو وطن مفتوح على الغربة. نقرأ من سنوات طويلة، أن ثمة هجرة كانت تحصل وبشكل قسري، أحيانا لظروف سياسية، وأحيانا، لظروف امنية، وأخرى معيشية. ولا شك في ان الظروف المعيشية هي التي شكلت العامل الاساسي في عملية اغتراب اللبناني عن وطنه. كل المهاجر الاميركية (الجنوبية والشمالية) والمهاجر الافريقية، تعرف المغترب اللبناني، من خلال بروز اسماء العديد من اللبنانيين، على الصعيد العالمي، والمؤسف، أن عملية الهجرة في القرن الواحد والعشرين ما زالت مستمرة، ونحن بالتالي امام نوع من نزف متجدد لا يمكن وقفه. بعضهم يتحدث عن عوامل ايجابية كثيرة، تجعل هذه الهجرة موردا للرزق، وموردا للثقافة، يستفيد منه الوطن وجيل الشباب. ولكن، نحن لا ننسى اننا نخسر دائما عنصر الشباب، وأن المجتمع يفقد هويته بطريقة او بأخرى. وما يحدث على الساحة اللبنانية اليوم، نزف من مكان، وتدفق من مكان آخر. وهذا ما يغير، في طبيعة الحال، من هوية المكان ويبعده عن الطابع الاساس الذي كان مطبوعا به. ان ما اشير اليه في روايتي “حب في زمن الغفلة”، هو هذا النوع من الهجرة، التي بدت مرتبطة بالاجتماعي اكثر، وبالظروف التي نتجت عن التمزق النفسي الى حد كبير، بالاضافة الى العناصر المادية الضاغطة على الاسرة الصغيرة. ولا شك في ان التكنولوجيا، لعبت دورا جديدا في وسائط الاتصال المختلفة، بطرق اكثر اتساعا وشمولية، بين المقيم والمهاجر. ويمكن القول ان ابناءنا اليوم يتعرضون ـ شئنا أم أبينا ـ لنوع من التربية المختلفة، عن تربيتنا، وعن ثقافتنا. لذلك يبدو لهم النموذج الغربي اكثر انفتاحا، وأكثر اغراء.

■ المتابع لرواياتك، خصوصا في رواية سابقة لك هي “نوارة” وفي روايتك الجديدة هذه، يلاحظ ان واقع الجريمة هو واقع متداخل الاسباب والاساليب، مرتبط بقوة السلطة، وبسلطة المال. هل يسعى الروائي في رأيك الى ادانة القاتل والقتيل معاً؟ هل تسعى هدى عيد الى تكريس السرد التراجيدي الذي يدين ولا يدان؟

– انا أكتب الاجتماعي، فالمجتمع هاجس اساس بالنسبة إلي. وأجد نفسي دائما مع مقولة ان الرواية يمكنها ان تكون الحقيبة الاخيرة لتهريب التاريخي. وبالتالي لسنا مضطرين دائما للعودة الى قراءة التحليلات السياسية العميقة، حتى نستقرئ الاجتماعي. لذلك احاول في رواياتي، لفت النظر الى تغير المجتمع، بطريقة او بأخرى، وبابتعاده عن السلمية الاهلية التي كنا فيها، كانت الحرب عنصرا خارجا. اليوم بات افراد من المجتمع، ينتجون الحرب، عبر فصل القتل. نحن نحيا في مجتمع مفتوح على الجريمة. وهذه مسألة خطرة، وتشكل بالتالي اشارة ضوء ينبغي ان نتنبه لها كمواطنين، وكمتابعين لحركة المجتمع في حيثياته الصغيرة والكبيرة. المقلق في الموضوع ان الجريمة هنا هي بلا عقاب. وهذه مسألة خطيرة جدا، وينبغي على السياسي والمفكر والفنان، وكل فرد قائم في المجتمع أن يتنبه لها. لقد باتت الجريمة تشكل هاجسا في اعمالي الروائية، لأنها تحولت الى شخص معنوي موجود على الارض، ويتحرك بحرية تامة، من دون أن ينال عقابا له. لذلك اصبحت الجريمة احدى مكونات البناء السردي، الذي اعمل على ايجاد مداميك ثابتة له، بالنسبة الي هذه الظاهرة الخطرة بالذات.

■ التقنية السردية في اعمالك الروائية، تتسم بتطوير الشكل التقليدي لآلية الحوار. رأينا ذلك في روايتك “حياة اخرى” وفي روايتك الجديدة هذه. هل اكتملت في رأيك مهمة التطوير التي تبذلين جهدك في تكريسها، ام انك مستمرة في تقديم اضافات اخرى؟

– الفن الروائي، فن مفتوح كسائر الفنون. لذا، أعتقد ان الروائي الحقيقي، عليه ان يجرب اكثر من مرة، وعليه ان يجدد اساليبه وتقنياته، ولا يركن الى المألوف والمعتاد. نحن امام قارئ مختلف. القارئ لم يعد محصورا بقراءة الكتابات المنتجة باللغة الام. اصبح يقرأ اعمالا روائية منتجة على الصعيد العالمي. وهنا ينبغي ان نعترف بأن الرواية العالمية في الخارج، اكثر تطورا وأكثر ديناميكية من الرواية العربية. وعنصر التجريب لا ينتهي فيها. لذلك علينا ان نحاول ونجرب دائما في الروي الخاص بنا. شخصيا، ومن خلال عملي على سردية الحوار بطريقة مختلفة، اؤمن بأن الحوار هو تقنية مهمة وحيوية في العمل الروائي. وما امارسه وما مارسته في هاتين الروايتين كان طريقة محببة في الحوار السردي، لاقت استحسانا من قبل القراء. فقد كسرت هذه الطريقة المسافة بين المتحاورين، وبالتالي جعلت الحديث يبدو اكثر حميمية، وأكثر صدقية، حيث شكل نوعا من تداخل  الاصوات ضمن الشخصية الواحدة. هذه التقنية تحتاج الى جهد كبير، والى نوع من الاستغراق والذوب فيها، حتى يمكننا الحصول على هذا الصوت المتداخل بصدقيته وبقمة حرارته وشفافيته العالية.

■ معنى الغفلة، ومعنى الضياع، اين يتشابهان في عمليك الروائين “الحياة في الزمن الضائع” و”حب في زمن الغفلة”، وأين يتقاطعان، خصوصا انهما يمثلان رمز المرأة الشرقية في مجابهتها للرجل والمجتمع، وفي رغبتها بحياة اخرى، وحب جديد؟

– دائما علينا ان نسأل ما هو الهدف من الوجود الانساني على الارض. هل وجد الانسان ليعاني فقط، وليتألم ويحتار من التقلبات التي تأخذه ذات اليمين وذات اليسار؟ ام عليه ان يشعر بنوع من الاستقرار، وبنوع من الامان والثبات؟ اتساءل دوما لِمَ هناك اناس عديدون حول العالم، لا يعانون مما نعاني نحن؟ دائما نبقى في مراحل  التحول الذي يصهرنا ويجعل كل مشاعر الالم والضياع تهيمن علينا في بعض المراحل، لذلك اجدني اركز على هذه المفردات، مثل الضياع والخيبة والغفلة. ففيها اشارات الى زمن يمر من غير ان نستطيع القبض عليه، ومن غير ان نسمره بطريقة انسانية عالية. فيما المرأة ههنا، هي العنصر الاكثر تلقيا لهذا النوع من الضياع، وهذا النوع من الغفلة، لأنها اساسا في المجتمع، كانت هي الحلقة الاضعف، اليوم باتت اقوى من السابق، إلا أنها تلقت الخيبات والغفلات بطريقة اعلى حساسية ومعاناة. ولكن ما من شك في ان الضياع بمدلولاته  يطاول المرأة والرجل على حد سواء، ويجعل الزمن يتسرب من بين ايديهما، من دون أن يحسنا استغلاله بطريقة تخدم انسانيتهما، وتخدم هدفيهما في أن يكونا داخل الحدث، لا خارجه.

لـ«وديع النعيم» ولنا في صوته نعيم آخر

وديع الصافي في صورة من الأرشيف

وديع الصافي في صورة من الأرشيف

من الذي مات؟.

من هذا الذي نعاه لبنان والوطن العربي؟.

من هو الجبل الذي دفناه في جبل نيحا؟.

تقول التلفزيونات والإذاعات وتكتب الصحف ويشير الحزن الوطني إلى أنه وديع الصافي.

هل كانوا يكذبون؟.

نعم وكلا. فهو مات ولم يمت.

لم نعد نراه لأنه مات… لكننا نسمعه لأن صوته حي.

لقد مات بعض منه. ويعيش فينا ومعنا بعضه الباقي الذي لا يموت.

الصوت المجلجل، الشجي، القوي، المتمكن. العبقري.

لكن وقبل أن يودّعنا وديع ويرحل إلى الخلود… أودعنا صوتاً خالداً وأغنيات خالدات.

له النعيم… ولنا في تراثه نعيم آخر.

وليد الحسيني

الشريف حسن بوغزيل: “بائع اليقظة” دعوة ليقظة مستمرة

كتبت غادة علي كلش:

يحرص الشاعر الليبي الشريف حسن بوغزيل في قصائد ديوانه “بائع اليقظة” الصادر باللغتين العربية والفرنسية على رصد الوعي اليقظ بالسردية الذاتية والوجودية للانسان الخطيب والمخاطب معاً، وذلك ضمن التحام المعاصرة بالأسطورة والتحام النضال بالتاريخ المتصل، اللامنفصل في الهوية الوطنية من جهة، وفي هوية الانسان من جهة ثانية.

في حوارنا مع الشريف بوغزيل، نرصد تلك المعالم وفقاً للأسئلة والردود الآتية:

 

■ يأتي عنوان ديوانك ” بائع اليقظة”، بعكس الوارد في ذهنية المتلقي. أي عكس المفترض السائد مثل “بائع الأحلام” أو “بائع الكلام”. ثمّة تميّز شعري ههنا يتحرّك بدءاً من العنوان. هل العناوين في رأيك يمكن أن تكون شعراً، وهل اليقظة هنا هي حلم اليوتوبيا الأشهر؟

– إنَّها البيئة اليقظة.التي أعيشها و هذا الإمتداد الجميل الذي دعاني يوما أن أقول… (إن تكُن هُنا فأنتَ في بِدايةِ العالم وإن تكُن هُنا فأنتَ في نِهاية العالم) وبين البِدايةِ والنهاية فعل بِحجمِ هذهِ الحضارة. عِندما إلتحمتِ الحضارةُ الإغريقيَّة بالحضارة الليبية القديمة فكانت الفلسفة، الشعر، المسرح؛ الفن والجمال (إنَّها أثينا وشقيقُها قورينا) وذلِكَ المتوسط السابِحُ بينهُما، إنَّها مطامر الأوذيسة وخطوات أبولو النبع النَّاعس. وسيد الشعر كاليماخوس وركحه وأمازونات يعزفن الريح  وإيقاع المعركة وأفروديت  تغزل أشعة الشَّمس وتؤلف موائد الميعاد وأعراس الذئب لحظة الضُحى المهيب لِتَصنع أشرِعة الإنطلاق.

كُلُّ هذا كانَ دعوةً لِيقظة مُستمِرَّة. نبيعها للرِّيح لتسمع الحياة أُنشودتنا في الحياة. لِهذا أتت نُصوص تُحاكي المعنى وإن لم تنطق قصائدي بها لكِنَّها تدقُّ نواقيس اليقظة وتبيع أصداءها للمارِّين سعياً لِعالمٍ أكثرَ نقاء قبل أن يُفنِّي الوجود .

لنُؤكِّد لهُ أنَّنا كُنَّا هُنا بِجمالِنا ونُبلِنا وفِعلِنا الَّذي خُلِقنا لأجله  (الانسان).

■ قصيدتك التي يقول مطلعها “ليلة اكتمل فيها القلب…” تركتها انت بلا عنوان. هل ابتغيْت من ذلك عدم حدّ هذه القصيدة  برمز ما، ولماذا؟

– لا أُنكِرُ نرجسيَّتي الفطرة.ولا أُصادِرُ اناي بحُجَجٍ واهِية،بل أعشقُ الإنسان فيَّ. ورغبتي في الوصُول قبل الأوان وإن تأخَّرتُ قليلاً أو كثيراً ولِكَوني أهتمُّ بالإنسانِ والمُخاطِبِ لدى هو الإنسان المُطلق الَّذي يُشبِهُ الكثيرُ مِن ملامِحي لم أتردَّدُ كثيراً في ترجمةِ ديواني بائعُ اليقظة والفضلُ هُنا يرجِعُ للشَّاعِرة المُترجِمة الجَّميلة منية بوليلة الَّتي قامت بترجمتِهِ وتغنَّت بِهِ في أحياءِ باريس ودُوَلِ الفرنسية وبالفعل راضٍ على وُصُولِ الصَّدى الجَّميل عربياً وعالميَّاً .

■ ديوانك هذا نشر باللغتين العربية والفرنسية، هل لك عين على القارىء العربي وعين على القارئ الأجنبي، وأي العينين أمضى مفعولا برأيك؟

–  ديواني كان تحت عنوان (نثر وسرد) بائع اليقظة …

ولأنني أؤمِنُ بانناعندما ننطِق فنحنُ نسرد، نسرُدُ ذواتِنا مشاعِرنا أعماقِنا المُتطاحِنة والمُتسامِحة… قد تكون الومضةَ الشِّعريَّة طريقاً والنَّثر طريقاً والروايةَ والقصة والخاطِرة… إلخ طريقاً، لكِنَّني أبداً لا أُؤمِنُ بالقوالِبِ الأدبيَّة الَّتي تأسِرُ النصَّ وتؤطِّرُهُ وتجعلُ الجميعَ يتصارعُونَ لنَيلِ ذلِكَ اللَّقب و غيرهِ لِهذا إخترتُ لِنفسي طريقاً. وأعتبِرُ ديوان بائعُ اليقظة أوَّلَ ديوان عربي صريحُ يحمِلُ إسمَ (نثر وسرد).

أشعُرُ بِأنَّ النصُّ الأدبي يحمِلُ في مُفرداتِهِ سردُ الحِكاية والزمن الرِّوائي والخبر الصحفي والصورة الشعريَّة والحدث التَّاريخي أو الإسطُوري والزَّمن السينمائي لهذا أجِدُ نفسي أكتُبُ مُتحرِّراً مِن كُلِّ القيود طالما أنَّ اللُّغة هِيَ أداتي والفِكرة هِي مُنطلَقي وشعوري بِالعالمِ وإحساسي بِهِ مُلكي …

■ “الشاعر السارد”، هذا ما تصف به نفسك.وفعلا أنت تسرد في قصائدك جزئيات وامضة من سرديات مختزلة بجمالية ووجع، عن الواقع والوطن، والفكر والبؤس والحلم، والعاطفة والعطاء، وذلك ضمن لغة راقية المفردة عميقتها. هل باستطاعة الشعر أن يقتنص السرد السوبر إختزالي؟

– أنا مِن الجيل الَّذي نطق بالثمانِينيَّات وأوَّل مُعلِّم بعدَ مقاعِدِ الدَّرس كانت (فيروز) ترسُمُ حينا بِمُنتهى الدقَّة وكأنَّها تُغنِّي لِمدينتي القصيدة المُبتدِئة .

قطفتُ مِن شُعراء أغانيها صُوري ومِن صوتِها نشيدي الأبدي (الإنسان) وحينَها كانَ لبيروت وللجنوب وقعُ القلب والعشق .

عرفت كُل شُعراء العِشقُ والمُقاومةِ والجَّسدِ العربيُّ المُلتهِبُ مِن فِلسطين حتَّى لُبنان،درويش علَّمني كيفُ أنطُقُ دونما تردُّد وخليل حاوي علَّمني كيف أعشقُ قبل أن أُعلن الموت للحياة. ونزار ربت

على قلبي وعلمني كيف افوز بالنجمة القصيّة.

عرفتُ حِينها كُل من كتبَ لبيروت جمالها وحرقتها عرفت سعدى يوسف ونزيه أبو عفش وعزالدين المناصرة وامجد ناصر وعرفتُ أيضاً الأديب اللِّيبي سالم الهنداوي والشَّاعر الجميل صديقي وتجرُبتي، مفتاح العماري وورفيق الدرس والقافية فرج العربي .

هكذا كانت البِداياتِ تُشبِهُ البِداياتِ تماماً

 أمّا عن قصيدتي أوليبيا هِي سِرُّ أنثروبلوجي لِتاريخ ليبيا هذه الفاتِنة الَّتي مرَّت بِها العديد مِنَ الحضارات والأنماط البشريَّة ورُغمَ كُلِّ ذلِكَ إحتفظَت بِملامِحِها اللِّيبيَّة العريقة .

اللِّيبيُّونَ صارعُواْ رِياحَ القبلي كما صارعُواْ الجُيُوشَ والطُّغاةَ عبر كلِّ الحِقب .

اللِّيبيُّونَ حارَبُواْ مَعَ مُرقُص الإنجيلي وشيخِ الشُّهداء عُمرَ المُختارَ وطردواْ الرُّومانَ، اللِّيبيُّونَ أسَّسُواْ لحضارةِ بِلونِ وطعمِ الحُرِّيَّةِ حتَّى خلاصهم من آخرِ الطُغاة .

لِهذا كانت قصيدةُ أوليبيا أشبهُ بِنُبُوءَةِ القصيدةِ الَّتي أجْبَرَت نفسها على أن تكُونَ هكذا أو رُبَّما دُون وعيٍ حتَّى مِن شاعِرِها فانتصرتِ القصيدةُ على خوفِ الشَّاعِرِ في زمنٍ كانَ الخوفُ سيمته .

■ إلى أي جيل في الشعر الليبي والعربي تنتمي ،وهل تعتبر قصيدتك” أو ليبيا” عكست تأثّر القصيدة الليبية بالمخاض الذي مرت وتمر بها ليبيا اليوم؟

– أعتقِدُ أنَّ ديوانَ الشَّاعِر رُؤيتِهِ بل رِوايتِهِ الَّتي سردَها بِطريقتِهِ الَّتي أُملِيَت عليهِ بل أملاها عليهِ إيقاعُهُ الدَّاخليُّ …

قد يفتقِدُ الدِّيوانُ للتكنك الرِّوائي،ولكن كُلُّ مشاعِرهِ تُخاطِبُ ذاتَ الزَّمن الرِّوائي.

لَو أخذنا على سبيلِ المِثال الرِّوائي العالمي ماركيز .. سنجِدُهُ أسيرُ الصُّورة الشِّعريَّة الَّتي تُحرِّرُ ذاتها وصولاً إلى حدث قِصَصي أو رِوائي ولو أخذنا محمود درويش سنجِدُهُ يروي لنا حَكَايا أُمِّهِ وإنسانيَّةٌ بِسردِها في مسيرتِهِ الشِّعريَّة الملحميَّة وإن كانت تأتينا على هيئةِ قصائِد إلا أنَّها ذات القصيدة الَّتي لا تنتهي إلاَّ فينا .

تارِكه فِعلها كما آخرُ سطرٍ في رواية أو مشهد سينمائي وكذلِكَ نجد الرِّوائي واسيني الأعرج والدكتورة الشَّاعرة زينب الأعوج مِنَ الجَّزائِر ..

 قصيدةُ زينب تُحاكي الزَّمنَ الرِّوائي ورِوايةُ واسيني تُحاكي الصُّورة الشِّعريَّة أمَّا السِّرُّ في أنَّنا نعيشُ زمَنَ الرِّوايةَ رُبَّما يرجِعُ إلى سُرعةِ وزحمةِ الأحداثِ الَّتي نعيشُها .

لا أُؤمِنُ كثيراً بِالأطوارِ الحياتِيَّة لِلمُجتمعات كما حدَّدها إبن خلدُون وكونت واميل دوركايم بِأنَّ المُجتمع بلِ الإنسانِيّة تسيرُ وِفقَ حتميةٍ تنطلِقُ من النَّشأة والتَّكوين ثُمَّ النُضجُ والإكتِمالُ ومِن ثَمَّ الإنهِيار إلا أنَّنا بالفعل نُشاهِدُ الآنَ معالِمَ لِنِهاياتٍ قد لا تكُون إنهِيار رُبَّما ستُضفي على عالمٍ مِن نوعٍ آخر. لِهذا الإحساس بِالنِّهايةِ يسكُنُ الفرد العادي كما يسكُنُ المُثقَّف غيرَ أنَّ وعيُ المُثقَّفِ بِهِ أكثرُ قلقاً فنجِدُهُ يُسارِعُ في رصدِ كُلِّ الأحداث فنجِدُ القصيدة تروي أحداثاً وأحداثاً وكأنَّها لا تُريدُ أن تنتهي تضلُّ مفتُوحةً على كُلِّ التغيُّرات فنجِدُ رُوحَ الرِوايةِ يطغى والسَّردُ هُو أساسُها وبِشكلٍ غيرُ إرادِيٍ نجِدُ الرِّوايةَ تسكُنُ ملامِحَ الحِقبةِ وتفرِضُ إيقاعَها ومنهَجَها حتَّى على القصيدةِ وأحياناً تتعدَّى ذلِكَ لِلمقالةِ والخاطِرة .

هوامش:

قورينا… هي مدينة نسبة للملكة قورينا. تقع بليبيا على قمم الجبال وهي شقيقة اثينا حضاريا.

ابولو… هو النبع الذي تزوج عليه باتيوس قورينا بعد النبوءة.

كاليماخوس… شاعر ليبي عرف بالحضارتين.

أريتا. فيلسوفة ليبية ابنة الفيلسوف ارستيبوس صاحب مذهب اللذة. تلميذ ارسطو وصديق افلاطون… وتعني اريتا الفضيلة.

الامازونات… هن مقاتلات ليبيات ممسوحات النهد جميلات . بارعات برماية الرمح.

وفاء الحسيني تتحدّث عن: الطفل الذي أنقذ وطناً

صدر أخيراً عن “دار كتاب سامر” قصة “الطفل الذي أنقذ وطناً” الذي يتناول سيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ضمن سلسلة “شخصيات عربية” أثّرت في تاريخ شعوبها.  القصة لوفاء الحسيني التي تحدّثت إلى صحيفة “المستقبل” في حوار نعيد نشره هنا:            

“الطفل الذي انقذ وطناً” قصة انسان اعاد للوطن جماله وللحب مكانه وللخير زمانه وحكاية شاب كان طموحا رغم الحرمان وكريما رغم الحاجة ومتفائلاً رغم التشاؤم الذي عم لبنان اثناء الحرب الأهلية.

هي قصة تختصر مسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانجازاته في الانماء والاعمار، فتروي لأطفال لبنان والوطن العربي تاريخاً مضيئاً سطره الرئيس الشهيد بعد ان انتشل الشباب من ميادين الاقتتال الى العلم والسلم وأنقذ لبنان من الدمار والويلات، فاستشهد تاركاً خلفه بصمات بيضاء وثروة بشرية قيمة.

وفاء الحسيني

وفاء الحسيني

تأتي الحكاية في سياق سلسلة الكتب التي تسلط فيها المؤلفة وفاء الحسيني، الضوء على تاريخ عدد من الشخصيات العربية البارزة، وهي القصة الثانية بعد “حكاية الصقر حلم” الصادرة عن “دار كتاب سامر”.

وأكدت الحسيني لـ”المستقبل” انه “من الجميل ان يعرف الأبناء والأحفاد قيمة ما فعله الآباء والأجداد، فتاريخنا مجيد وزاخر بالابطال والعظماء والعادات والتقاليد الجامعة وبالثقافة الموحدة”.

ولفتت الى ان “الحكاية دعوة لاطفال لبنان والعالم لتعلم حب الخير والناس والوطن تماما كما كان الرئيس الشهيد الذي كان محبا رغم الكراهية التي نشرها خلاف اللبناني مع اخيه اللبناني، فانتشل الشباب من ميادين القتال الى رحاب العلم والمعرفة وأنقذ وطننا من الدمار، لم يكن يوماً طائفياً أو مذهبياً، بل خدم وطنه وشعبه بمحبة وأمانة”.

واشارت الحسيني الى ان “الأيدي الشريرة حاولت ضرب بصماته الانمائية التي طالت البشر والحجر والطرقات والمطار والمستشفيات، فتربصت له واغتالته، الا اننا لا نزال نتعلم من الرئيس الشهيد ونحلم مثله بوطن ينهض رغم الحروب والمآسي ويعود مشعاً ومضيئاً بأطفاله وشبابه”.

وأملت ان “نمسح دمعة على وجوه أطفالنا وأن تنتهي الحروب والأزمات في وطننا العربي، والتي لا تنفك تنثر دماء اطفالنا على الجدران وترمي شبابنا في الساحات إما ضحايا أو تائهي مصير”.

وتمنت الحسيني ان “يحل السلام والوفاق وأن تعم المحبة وطننا العربي، وأن تسهم الرواية في تثقيف اطفالنا حول تاريخنا المضيء وحول رجالات ناضلت في سبيل تنشئة جيل قيادي يقود الوطن الى النور والمعرفة والحقيقة”.

واذ كشفت انهم “بصدد ترجمة الرواي الى اللغتين الانكليزية والفرنسية”، لفتت الى انه تم اصدار “مجموعة كتب عن البيئة والنظافة والسياحة وعن النوازل والصواعد في جعيتا وقاديشا، وكذلك مجموعة رمضانيات.

سارة مطر

هيام كامل عراب: الغوص والتحليق بالشعر معاً

غادة علي كلش

تنتمي الشاعرة الليبية الشابة هيام كامل عراب، الى بيئة ثقافية وأدبية زاخرة بالعلم والأفق الرؤيوي، والحس الشاعري الشفاف. ديوانها الجديد “قبل أن تغادر” يعكس ألقَ المفردة والصورة والوجدان من جهة، ويعزز جمالية اللغة والعاطفة والتميز من جهة ثانية. حول مجموعتها الاخيرة، وهواجسها الابداعية، وكذلك هواجس الوطن، كان لنا مع هيام عراب الحوار الآتي:

■ لمفرداتك وصورك الشعرية التي يتغنى بها ديوانك الجديد، مزيج تعبيري يجري في نبض القارىء مجرى الخَدر في الدم. ما سر هذا المزيج؟ إلام تردّين قطافه؟ الجينات، البيئة، الفطرة، أم ماذا؟

– اعتقد بأن الفطرة التي ولد على سجيتها اول نص شعري حراً طليقاً سابحاً في مدارات الكلام، هي مادعتني في كل مرة لمواصلة الغوص في هذا السحر المغمس بنشوة التحليق دون تكلف، أما جيناتي الوراثية المأخوذة من والدي وعائلتي وبيئتي الثقافية الى حد ما كانت هذه هي الدعامة التي ساندت الملكة الربانية منذ إنبثاقها الأول، فلولا هذا الخليط ما كنت لأعبر ضفاف النص إلى عالم عشقت فيه مزج الإحساس بشهوة اللغة لأتمكن من الوصول الى قلب القارئ.

■ توزعين اللغة الحسية والفنية في قصائدك، كما يوزع الفنان لوحاته الأجمل على جدران المتاحف. ونجد في شعرك تطعيمات خاطفة من الرويّ الإنساني الشفيف. هل هذا ما يميز أسلوب هيام؟

– لأن تكتب لايكفي ان تجيد الإبحار في غور اللغة وان تتحصن بمفرداتها دون ان تحقن الكلمة بشريان نبضك مباشرةً، ولحضور النص على الورق قدسية ستفرض نفسها على قلمك، كما يفرغ الناي شجونه بفم العازف، سينسدل الحرف ليرسم لك صوراً وكما اللوحة بيد الرسام لن تدرك معها اصابع يدك متى كانت البداية وإلى اين سيكون المنتهى . حينها ستكون أنت المفعول به ولنبضك فعل الفاعل وللحرف المبتدأ والخبر.

■ عندك مهارة فائقة في اصطياد اللقى من مسرى الحياة، ومن مكنون الذات، ومن لؤلؤة اللغة. هل انت من اللواتي يسعيْن لإختراق المصاف الراقية للشعر العربي المعاصر؟

– اسعى للوصول الى المتلقي بالدرجة الاولى والولوج الى ما يود البوح به وإلتقاط الكلمات من جوفه ولأن امتلك القدرة على أن يعكس نصي مايعاصر قضايا هذا الجيل بأدواته الزمنية والشكلية، وليكتمل هذا النص وينصاع لمتطلبات هذا العصر يلزم ان يتوافر فيه التواصل بيني وبين القاريء، فاسمى التعليقات تلك التي تصلني من قراء مروا بالنص فاستوقفهم لمرات عدة وكلما قرأوه احسوا بنشوة المرة الأولى، في بدايتي كنت لا اتطلع للشعر كغاية اسعى الوصول الى قمة هرمها وكنت اهتم بأن يُعتق الحس الشعري بداخل بوتقة النص ليتخد من جمالية الحرف منبراً للبوح، ومن بعد عبوري لهذا العالم أيقنت بأن للكلمة صدى لايمكنك معه إلا الإستسلام لمساره هي من عليها أن تعبر بي لإختراق مصاف الشعر العربي المعاصر إن ارادت منحي ذلك لأتفوق على نفسي واعبّر عنها.

هيام كامل عراب

هيام كامل عراب

■ كيف تتطلعين إلى حاضر تجربتك الشعرية ومستقبلها؟

– حقيقة انطلاق ديواني الأول ” قبل ان تغادر” عن منشورات مومنت، كان له صدى اكبر من رؤيا حلمي له في طور تكوينه، منذ انطلاقته في لندن كانت الوجهة صائبة في اختيارها، فقد فُتحَ الأفق لإنتشاره من خلال نزوله على مواقع لها مكانة عالمية في تسويق الكتب بصورة عامة (كأمازون وقوقل بوكس )، ولاقى رواجاً لم اتوقع حجمه، وفتح أمامي افاق أخرى لكتب جديدة في صدد التحضير لها، بالوقت الحالي اتطلع الى أن اتمكن من التعريف بشعري لأنقل ابداعي لينفتح على المشهد الأدبي العربي بغية تسليط الضوء على الأسماء الليبية الشابة التي كانت مغيبة عن المشهد الثقافي طيلة الحقبة الماضية من الإنغلاق.

■ كيف ترين هموم الشباب الليبي في هذا المفصل التاريخي المصيري، الذي تشهده ليبيا؟

– كغيري من الشباب له العديد من الخطط المستقبلية بجوار القدرة على التميز نسعى الى استغلال مواهبنا ونرغب بتوفير البيئة الحاضنة لشتى مجالات التميز فينا لتفريغها والوصول بها الى ابعد مدى قد يتاح لنا لإبراز هذا الإبداع، وقد تجلت هذه الطاقة الشبابية في أروع صورها في بداية هذا التغيير الجذري وتنوعت الكتب والصحف وفتح باب السلطة الرابعة على مصرعيه أملاً في اجتياز كل ما كان يفرض على فئة الشباب من ضغوطات كفيلة بتكبيل الطموح فيهم، من حجب وتقييد وطمس للروح وقتل الإبداع في مهده والإبتعاد عن صقل المواهب بالدعم المادي والمعنوي والإتجاه بها الى نحو التميز، كنا وقد انزاح هذا السيف المسلط على رقابنا نمنع من انفتاحنا على الآخر وتحجب العديد من الحريات ويضيق الخناق على كل ما يرد إلينا من إصدارات ادبية وثقافية عربية كانت ام اجنبية بعقلية الإنزواء بمنأى عن الآخر بالقمع والتقييد، وفي الأدب والثقافة بشكل خاص لازالت تنقصنا البيئة الحاضنة لهذا المجال الخصب والذهاب بمحدودية المشاركة للإنبلاج في معترك النشاطات والمعارض العربية الأخرى لجذب الضوء واختطافه للحاق بركب المتغيرات الحاصلة على المشهد الثقافي ككل.

■ منْ هي هيام كامل عراب؟ وما هي نتاجاتها الأدبية حتى اليوم؟

– لا تتساءل كثيراً

فأنا يا سيدي

مفتوحة كدفتر

مقروءة كلحن فيروزي

في صباح يوم ممطر

منثورة كزهر الياسمين

أفترش مدائن الحزن

وأرتدي صقيع الحنين

***

أنا ياسيدي

كي لا يأسرك التفكير طويلاً

ككوب من الماء يشقه

الإنكسار إلى نصفين

نصف يبحث عن ذاته

ونصف يغوص في إنكارها.

بكل الحروف التي كتبت عجزت عن البوح بها، والوقوف امامها لايصمد لأكثر من لحظات لا تفي بالحديث عنها، واصعب النصوص تلك التي حاولت مراراً ان اكتبها فيها ولم أفلح.

هيام كامل عراب

شاعرة من ليبيا، من مواليد مدينة طرابلس 16 تموز (يوليو) العام 1982. حاصلة على بكالوريوس في برمجة الحاسب الآلي… تنشر نصوصها في العديد من الصحف والمجلات الليبية والعربية، صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان “قبل إن تغادر ” عن منشورات مومنت لندن 2012، ولها تحت الطبع كتاب سيصدر قريباً بدمشق بعنوان “قناديل” مشترك مع شعراء عرب ومخطوط لمجموعة شعرية بعنوان “يحدث”. في صدد ادراجها بالموسوعة الشعرية الكبرى للشعراء العرب الجزء الثالت.

غادة علي كلش تلاحق الطيف والاثر

غادة علي كلش توقع كتابها الجديد

غادة علي كلش توقع كتابها الجديد

كتبت نرمين الخنسا

تغرف الكاتبة غادة علي كلش كلماتها وكتاباتها من خوابي الفكر الصافي. وتعطينا عصارات من التأمل الوجداني والصوفيّ، ومن العِبر والفن،  في سياق قراءة النفس والحياة.

لها باع في انتهاج الشذرات الأدبية ذات البعد الفكري والروحي معا. تمتلك مفاتيح في اللغة، تؤدي بالقارئ إلى الدخول في عالم التعبير الحكيم، وفي عالم التصوير الجمالي، البسيط في مفرداته، والعميق البليغ في دلالاته. هكذا قرأنا لها من قبل، “عصافير القضبان” و”مدارات الروح” و”عكس الريح”، وهكذا نقرأ لها اليوم كتابها الجديد الصادر حديثا عن دار درغام تحت عنوان “الطيف والأثر”.

أكثر من 300 شذرة أو خلاصة تأملية، تبذرها لنا الكاتبة كلش، في حقول العقل والقلب والنفس والوجود والطبيعة. وكأنها تدعونا إلى زيارة حدائقها الفكرية، التي تغتني بأنماط،  منها ماهو رؤيوي، ومنها ما هو عاطفي، ومنها ما هو حِكميّ (من الحكمة) ومنها ما هو جماليّ. كأننا نمشي في “كرم على درب”. من هنا يمكن القول إن غادة تحذو حذو العديد من الادباء الذين خاضوا غمار الخواطر أو العصارات البليغة في أدبنا العربي الحديث، وثمّة إشارات تذكّرنا براجي الراعي، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، وجبران، وهي أي الكاتبة إن واصلت، هذه الدربة في استخلاص العِبر، فستصل إلى مصاف راقية وبالغة الاثر،  بمرور الأعوام والأعمال.

تقول غادة في إطار تأملاتها عن النفس:

-الإنسان هو ذلك الكائن الصحيح المعتلّ.

–  المرء يعرف نفسه، لكنّه يُغضي في سرّه عمّا يعرف.

– الفرق بين المتوحّد والوحيد، أنّ الأول عزلته في الدماغ. أما الثاني فعزلته في الفؤاد.

– كل شيء فينا مسؤول عن دوره، حتى عتمة الجوف مسؤولة عن رؤياها!

– بحثت في كوكب النفس عن كنز مغمور لا نفطن له بالعادة، فعثرت على نعمة التكيّف.

– الحديث السريّ الذي يدور في أنفسنا دائماً، ولا يسمعه الآخر، هو الذي يُشكّل الجوهر الحقيقي.

على خط آخر، وتحديداً، خط العاطفة تغوص  غادة علي كلش بصفاء وحكمة، في معايير الحب وخلاصاته، عاملة على الإرتقاء بالتعبير عنه إلى مصاف روحية نبيلة، غير مبتذلة، وبعيدة عن الترويج الإستهلاكي للغة القلب. نقرأ للدلالة على هذا التوجّه:

-أقول لمن ضيّع هوية إحساسه، لا يوجد في هذا الدرب،  بدل عن ضائع.

– أقول للإنسان المخدوع،  أَقبلْ على إبتسامة الرضا، لا تغضب. فالخادع يسقط تواً من أعلى النفس.

-الوجه الذي يتعمّد الدوران من قلب إلى آخر. تختفي ملامحه من كل القلوب.

– وأنت تُصدّق مَن يقول لك إنك روحُه. لا تنسَ أن تُغربل له هذا الكلام، في مرأى الأيام.

– أقول لكل محب، لا تنسَ أن الحبيب ليس قلباً فحسب، وأنً كل ما اتصل به من فكر ونظر وسمع ومزاج وكرامة،قد يُقلِّب القلبَ عليك.

أما عن الطبيعة وتأثيراتها، فللكاتبة عصارات خلابة، تجعلنا نستمتع كثيراً بقراءتها. إذ هناك بساطة جميلة الحس، مرهفة التصوير، عميقة الدلالة. نقرأ منها:

-الأشجار لا تذوق طعم الموت، بل تذوق طعم اليباس.

– أعشق أشجار الأرض،لأنها تروي سيرة أشجار الجنة.

– أيها الساكن في “أفلاك” الطبيعة، بلّغ الأشجار رسالةً منّي: حُبّها في الروح أنشودة تسري إلى مسمع الوجود، وتُغنّي.

– تستحضرونني بمكوثكم في الشجر، وأستحضركم حتًى بمكوثي في الحجر.

– ثمة شجرة إختزنتْ خيوط الشتاء على سطحها الأخضر،وعندما مررتُ بها،  أمطرتني خيوطاً بيضاء.

– أود الإستلقاء على قمم الأشجار، لا حُبّاً بالعُلّو، بل حُبّاً بالتأمل.

لا تبخل علينا غادة، حتى في قراءة الدنيا بشكل عميق على بساطته، وبسيط على عمقه، فتقول:

-خُذْ كل ما يكسُرك بالصبر، ترَ نفسك مُتجاوزاً كل الإنكسارات.

– نفسُك هي بيتُك الأغلى قيمةً في الحياة. لا تبِع هذا البيت.

– تكون اليد بلهاء، إن لم يرافقْها العقل. وتكون رعناء، إن لم يرافقها القلب.وتكون سفّاحة، إن لم يرافقها الضمير. اليد مِرسالُ النفس.

– يكبُرُ إيلاماً،أن يأخذكَ الناس بما يفعله الغير.

– أنا المَشَّاءَةُ على أرض الوجود، أمشي ولا أجرّ الدنيا خلفي.

–  ليست الدنيا بهذا العُلوّ، حتى نعطيها كل هذا المقام.

عصارات كثيرة يحار القارئ أين يقف مرارا عندها. فاستعراض هذا الكم القليل المتاح في هذه المقالة، لا يفي مضمون الكتاب حقه. لكن، بالإمكان القول أن غادة نثرت مئات الخواطر في هذه البيادر، وكتبت عن الضمير، والصدق، والخيانة، والتواضع، والذكاء، والصبر، والعقل، والقلب، والصداقة، والطريق، والسفر، والفقر، والطير، والموت. ولها في الموت أكثر من نظرة. نرصد بعضها ههنا:

– كل واحد منا يحيا فردا ولو كان مع جماعة،ويموت فردا ولو مات مع قوم.

– وحده الميت اذا  خلف موعده، يكون غيابه سيد الأعذار.

– ثمة أموات لا يتركون صكّاً بما امتلكوه من أوجاع.

– لم نمت بعد، حتى نقلع عن إرتكابات الحياة.

–  ثمة نوعان من الجهل يشكّلان نعمة: جهل سيرورة الغيب. وجهل ساعة الغياب.

– الحياةُ دَوْرة،والموتُ دَوْر.

أما عنوان الكتاب: “الطيف والأثر” فقد اختارته الكاتبة من القسم الأخير الموجود في كتابها، وهو القسم الذي خصّصَته هي، لتسبر أغوار المدلول العاطفي المتكامل للإنسان، مفترضة وجود الطيف/ المحبوب، وأثره/ المتبوع. لتأخذنا معها في رحلات عاطفية غريبة النسق تحت مسمى: رحلة الطيف، ورحلة الأثر.

نذكر من هذا القسم بالتحديد:

-الطيف يقرأ معي، يكتب معي، ويسمع معي، صوت الفكر.

-لا نتشاطر أنا والطيف المكان، بل نتشاطر المكانة.

– نتبارى أنا والطيف في الفوقيّة. هو الطيف الجميل فوق الإستثناء، وأنا الطيف الجميل فوق العادة.

–  لستُ أنا الطيف، ولست أنت هو. هذا الطيف هو كلانا معاً،  تراه يطوف بنا في الحضور والغياب.

كتاب غادة علي كلش الجديد، هو قاموس التعبير عن النفس والحياة، وفيه يجد القارئ، المعاني التي يبحث عنها في الوجدان.